top of page
صورة الكاتبThe Ambassador Team

أيامنا الجميلة

بقلم: ريتا فرنسيس - جبور

 

كنّا في الصف الثاني ثانوي في مدرسة القرية، ننظر إلى الحياة كأنها عجينة طيّعة في يدنا ننظر إلى أنفسنا وكأننا أسياد الكون الجدد.

كانت الأحلام كلها لنا بيد أن الاجتهاد كان عدواً من أعدائنا. كنا في الفرع الأدبي ليس بالضرورة بسبب حبنا للأدب بل من أجل كرهنا للمواد العلمية. يشهد الله أن ذاكرتنا كانت كصفر يشبه الصفر، نصيبنا الدائم في مادة الحساب التي كانت إجباريّة. للشهادة كانت معلمة المادة شديدة الأناقة تلبس الحلي التي تتناسب باللون والشكل مع الحذاء والحقيبة وطلاء الأظافر. كان تفكيري يسرح دائماً بها، ليس بما تقول وتشرح بل بالمجهود المضني التي تقوم به في كل ليلة لتبدو بأبهى حللها في الصباح. كان صوتها خفيفاً فيه بحّة جميلة، لو امتَهنت الغناء لكانت نجحت بأن تكون من مطربات الصف الأوّل في ذلك العصر ولكان الميكروفون قد ساعد بإيصال صوتها إلى مستمعيها بصورة أفضل. كانت تصرّ أن تمتحننا على الأقل مرّة كل أسبوع، لم يكن الأمر يُزعجني كما تظنون فكنت أكتب وأكتب وأملأ الصفحات وعندما يأتي الحساب، كانت تترك ورقتي إلى الأخير وتطلب مني الاقتراب إلى مكتبها فأقترب. تنظر إليّ بعينيها المكحّلتين نظرة لا تخلو من المرح وتسألني:” من أين أتيت بما كتبته؟ لقد كتبت الكثير ولكن لا علاقة له بالحساب” أبتسم هنا فتتابع:” سأحاسبك على الحبر الذي صرفته وليس على المضمون” وتأخذ قلم الحبر الأحمر وتضع ثلاثة فأحتار وأسألها على عشرة أم على عشرين؟” فتضحك وتقول بأن المسألة الحسابية فيها شقان للعلامة إحدهما على الطريقة المُتّبعة للحل والأخرى على الجواب الصحيح لذلك...” تتابع فأقاطعها:” خلص مشي الحال” تضحك وهي تذكّرني بوجوب الانتباه أكثر فأهز رأسي لأوافقها. لقد وعدتها مراراً أن أنتبه لكن انتباهي دائماً يشرد ويضيع من المادة إلى ملابسها. كانت تشرح في يوم قررت الانتباه، درساً لا بد أنه كان من الدروس الصعبة، فكانت تعيد الشرح إذ أن الأغلبية الساحقة من التلامذة لم يفهموا، وعندما تسأل:” هل فهمتم؟” يجيب العدد الأكبر بالنفي فتعيد المسكينة الشرح من البداية إلى أن ضقتُ ذرعاً بهذا الشرح الذي لا ينتهي وأفلتت مني كلمة:” بلاها بقا!” لتدويّ عالياً وكأنّي الوحيدة في الصف. استشاطت غضباً وللمرّة الأولى طردتني خارج الصف. خرجت وللأمانة لم يحزنني الأمر لأني أعرف بأني لو بقيت لن أفهم ما تقوله ولو رددته مئات المرات. كان هناك كرسي وطاولة في الممر عليها قلم رصاص وأوراق بيضاء، يجلس عليها أمثالي من المطرودين فجلست هناك أرسم. كنت أحب رسم الكاريكاتير فرحت أرسم أستاذة اللغة الفرنسيّة لأموّه عن نفسي وأنظر بطرف عيني على باب الصف لكي أُخبئ الرسم قبل أن تراني.

أما “السفير” فكان اسم أستاذ التاريخ والجغرافيا، لماذا؟ لأنه كان من أولى طموحاته أن يصبح سفيراً. لا أدري لماذا كان ممنوعاً عليه أن يعطي علامة كاملة أي عشرين على عشرين ومعظم أهل الصف يكرّون الكلام “كمكّوك الخيطان” الذي لا ينتهي إلّا وقد انقضت الفقرة ليسألوه عن أوّل كلمة في الفقرة التالية ليبدأوا الكرّ من جديد. كان أيضاً يمتحننا على الأقل مرّة في الأسبوع عن كل مادة من المادتين فتتحايل عليه صديقتي وتسأله عن أمور السياسة فيقول لها:” اسألي أباك” لتقول له:” سألته واستغرب كيف أنّي في الثاني ثانوي وأستاذ التاريخ خاصتي لم يشرح لي أمراً مهماً كهذا”. كانت تلك المحتالة تصيبه في صميم كبريائه فيبدأ بالشرح وينسى الامتحان فتفوز عليه وتُكسبنا أسبوعاً إضافياً من الكسل. أستاذة الكيمياء كانت تشد شعرها في صفنا، أستاذ الفيزياء كان يستضيف المديرة في صفنا على الأقل مرّتين في الأسبوع. أستاذة اللغة الفرنسيّة كانت ضآلة علاماتها تتقلص لتبلغ الناقص أربعة في بعض الأحيان. أستاذ اللغة العربية كان له صبي وحيد وكان يعد كل فتاة مُجتهدة بأن يجعلها كنّته، أي زوجة ابنه الذي لم يكن يبلغ الخامسة من العمر في ذلك الوقت، ويحرم من اللقب مَن لم تحظَ بإعجابه، فاقتصرت التسمية في صفنا، وهي كالنيشان، على فتاتين اثنتين فقط. أما أستاذ الرياضة فكان “جغل” المدرسة بعضلاته المفتولة فترى رفيقتي تستشير مرآتها لتتأكد من جمالها فتقع المرآة أرضاً وتحدث ضجّة فيسألها عمّا أحدث الصوت لتقول له الصحن وتُضحكنا. كانت تستعين بي لأكتب لها رسائل غرام له، فأتقمص دور العاشقة وأكتب الشعر في عضلاته وفي طلته البهيّة وأوقع اسمها في نهاية الرسالة. ولغرابة الحياة كانت تخجل أن تعطيه الرسالة بنفسها لترسلها مع شقيقتها الصغرى التي أُغرم بها الأستاذ فعلاً وتزوج بها بعد سنوات.


٠ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

كي لا ننسى .. احنه مشينا للحرب

بقلم: نزار العوصجي ذات مرة في الثمانينيات جلست وأنا مسافر بالقرب من فتاة تبين أنها من البصرة، وهي طالبة في المرحلة الرابعة بجامعة صلاح...

Comments


bottom of page