بقلم: ايمن عجمي
أحمد مسعد الصبا طالب لبناني سافر إلى إيطاليا في سن الخامسة عشرة ودرس الإيطالية، وبعد سنتين من الدراسة تعلم اللغة بما يكفي أن يكتب عمودًا في جريدة المدرسة كل أسبوعين، وبعدها طلب منه مدرسه أن يساعد بعض الطلبة في تعلم العربية، وبعد سنتين اشتكى الطلبة له أنه في نفس الفترة تعلم أن يكتب ويقرأ الإيطالية أما هم فلم يتعلموا العربية بسبب تعقيدات قواعدها وكلماتها.
تتوقع منظمة اليونسكو أن نصف الـ٧٠٠٠ لغة الموجودة حاليًا سينقرض بنهاية القرن، فهناك لغة تموت كل أسبوعين؛ بسبب قلة الاستخدام، أو الهجرة، أو العولمة، وتعليم لغات مختلفة للأطفال.
وفي حين أن اللغة العربية منتشرة ويتكلمها أكثر من ٣٠٠ مليون شخص في ٢٢ دولة، إلا أن اللغة الفصحى لا يتكلمها أحد، وهي مهددة بذلك لفشلها في تحديث نفسها.
فاللغة كائن حي تنمو وتتطور، وقد تمرض وتموت إذا فقدت قدرتها على الاستجابة لمستجدات العصر.
ولعل الاتساع الهائل في الفجوة بين اللغة المكتوبة والعامية هو أكبر دليل على عجز الفصحى عن مواكبة التطور، لأن التطور يتطلب محورين؛ أولًا: أن يكون صاحب اللغة مساهمًا في صناعة الحداثة ومنتجًا لأبحاث علمية واجتهادات تقنية، وهذا في ذاته يستوجب استحداث كلمات تكون العربية مصدرها، أو على الأقل أن يكون مواكبًا لحركة الترجمة. أما المحور الثاني فهو إضافة مصطلحات وكلمات مستحدثة كل عام مع إصدارات القواميس.
بالنسبة للمساهمة الحضارية، كلنا نعرف أين نقع في هذا المجال، وحركة الترجمة بطيئة كأنك تترجم كتابًا عن تقنيات المحمول مثلًا فعند إصدار الكتاب يكون مر وقت كافٍ لخروج أجيال جديدة من المحمول نفسه. هذا مثال، أما الحقيقة الفاجعة هي أن دولة مثل اليونان تترجم في العام الواحد إلى اليونانية أكثر مما تترجمه كل الدول العربية مجتمعة في عشرة أعوام.
ولا تتأتى حماية اللغة بادعاء قدسيتها كما فعلنا، فاللغة العربية مثلها مثل أي لغة هي نتاج بشري متأثر بالتلاقي الحضاري والاندماج مع ثقافات مختلفة. تقديسنا للغة واعتمادنا على القرآن -الذي بالفعل صنع اللغة وضمن لها البقاء كل هذه القرون- لا يمنع أنه إذا عجزت اللغة عن تلبية احتياجات مجتمعها فهي سوف تهجر وتموت.
كيف تتطور اللغة؟
في الإنجليزية مثلًا، يقوم بعض المحررين بوظيفة رصد وتجميع كلمات وجمل جديدة لم يروها من قبل في الإصدارات الثقافية من كتب ومجلات وجرائد، وحتى وسائل التواصل الاجتماعي، ثم يسجلون أمثلة لكيفية استخدامها في هذه الاصدارات، بعدها يتم ترشيح هذه الكلمات والتعبيرات لكي تضاف إلى القاموس، وتقوم لجنة باعتماد هذه الكلمات وإضافتها أو رفضها.
أي أن أساس إضافة الكلمة هو شيوع استخدامها بما فيه الكفاية. مثال على ذلك كلمة “staycation” بمعنى إجازة تقضى في البيت أو قريبًا منه ولا تتطلب سفر.
أما بالنسبة للنحو والإملاء وقواعد اللغة فهي تجدد نفسها.
وبعودة أخرى إلى اللغة الإنجليزية، نجد فيها ما يقرب من ٢٠٠ فعل شاذ، بمعنى أنه عند تصريفه إلى الماضي لا تضيف إليه حرفي “ed” وإنما تغير بعض حروف الكلمة مثل “come-came ,sing -sang”
هذه الأفعال الشاذة تعتمد على ذاكرة الفرد وحفظه لذلك فغالبا هي أفعال سهلة وشائعة الاستعمال، ولكن أحيانًا يأتي جيل ولا يستخدم كلمة أو أكثر من هذه الأفعال، فتركن وتهمل وحينئذ يضاف إليها حرفي ال ed ، وأيضاً يظل التصريف الشاذ في الاستخدام. أي أن التصريفين يصبحان مقبولين في القاموس والكتابات الأدبية.
الفصحى ما زالت محتفظة بالنادر والمهجور من هذه القواعد لدرجة أنه يكاد يكون مستحيلًا على أحد أن يتكلم الفصحى شفهيًا ساعة واحدة دون الوقوع في خطأ. لأننا في الحقيقة أصبحنا نترجم من عقولنا التي تتحدث وتعيش بالعامية إلى شبه لغة أخرى.
الفجوة بين العامية والفصحى كلما زادت زاد معها مقدار الافتعال والتصنع، لأنك عندما تقرأ حوارًا في قصة مكتوبًا بالفصحى تعرف أنه لم يحدث في الحقيقة لأنها لغة لا يتكلمها الناس في البيوت، فمهما اقترب التعبير من الدقة، يظل مخالفًا لما قد تتخيله وكأنك تشاهد فيلمًا أمريكيًا وتقرأ الترجمة المكتوبة بدلًا من سماعه باللغة الأصلية.
أنا هنا لا أطالب بالتحرر التام من قواعد اللغة المكتوبة فوجود هذه القواعد لازم للفهم الصحيح للمعنى، والحفاظ على بنيان ثقافي جيد، والدليل أنني اكتب هذه السطور محاولًا قدر المستطاع توخي الدقة في كتابة نحوية صحيحة؛ ولكن هذا أيضًا يتطلب مراجعة لغوية من متخصص، أو كاتب، أو معلم، وفي الوقت نفسه يجب أن نعود ونقيِّم جدوى بعض هذه القواعد، فمثلًا اللغة العربية قد تكون اللغة الوحيدة التي تستخدم صيغة المثنى.
لاحظ أنه في العامية المصرية نادرًا ما نستخدم صيغة المثنى بالذات في تصريف الأفعال لأنها تعقيدات لا تضيف للمعنى الكثير.
الأمثلة كثيرة لهذه “المجعلصات” اللغوية. وإهمال تغييرها لن ينتج عنه حمايتها بقدر ما سيتسبب في إهمال وهجرة لاستخدامها، وزيادة الأخطاء الإملائية والنحوية في اللغة المكتوبة، ثم تتسرب العامية شيئًا فشيئًا إلى اللغة المكتوبة والمقبولة.
وزيارة واحدة لمعرض الكتاب ستظهر لك كم الكتب الظاهرة بالعامية، وبغض النظر عن ركاكة الأسلوب أو تماسكه، تبقى ظاهرة الكتابة بالعامية أحد مؤشرات الثورة والضيق على جمود الفصحى، انتشار العامية في الكتابات الآن يحدث بلا تقنين أو مراجعة من متخصصين، وهذا هو الخطر الحقيقي على جمال اللغة وذائقة المتلقي.
لأن اللغة كائن دائم التطور؛ فعلينا إما أن نؤنسن هذا الجموح أو أنه سيتوحش ويقتل الفصحى.
يمكننا أن نساعد أحمد في تدريس اللغة العربية بل وأن نساعد أنفسنا في تعلمها، بتبسيط قواعدها أو لنتعلم جميعا “الايطالية”، لنا الاختيار.
Comments