بقلم : ريتا فرنسيس - جبور
قال انتظريني وخرج فبقيت في مكتبه أحمل قيثارتي وأقلِّب صفحات هاتفي لعلّي أجد ما أقرأه فيجعل فترة انتظاري أكثر احتمالاً. بعد مضي أكثر من نصف ساعة قرّرت بأني اكتفيت من تلك المهزلة نهضت عن كرسي المكتب وخرجت لأجد بأن الموسيقيين قد غادروا جميعاً وبأن نصف أضواء الأستديو كانت مُطفأة فعدت أدراجي إلى المكتب حملت آلتي وحقيبتي وعدت وخرجت متوجّهة إلى سيارتي فرأيته يجلس عند أعلى الدرج الحجري يُشعل سيجارةً جديدة من سيجارة أخرى قديمة قبل أن يرميها بعيداً عنه. انتابني الغضب وشعرت بالذل! هل نسي أنه استبقاني في مكتبه لأمرٍ هام؟ فتحت الباب الخارجي ومشيت لأقف بمحاذاته فلم يُحرِّك ساكناً. مشيت لأقف أمامه عاجزة عن تكتيف يديّ بغضب بسبب حملي قيثارتي وغير قادرة على وضع يديّ على خاصرتيّ تعبيراً عن الاستهجان! قبل أن أتلفّظ بما لن يُعجبه بادر بالسؤال: “هل لديك دقيقة وقت؟” عقدت حاجبي بغضب وكدت أن أقول ما كنت أنوي قوله لكنّه سبقني وطلب منّي الجلوس فجلست إلى جانبه تفصلنا لفافة تبغه والولّاعة التي يتخلّى عن استعمالها في أوقات كثيرة. نظر إلى البعيد وقال بعد صمت دام عدة دقائق: “أنا حشرة”
عقدت حاجبيّ للمفاجأة! لم أكن من صديقاته ولا من المقرّبات منه، في الواقع كان هذا لقاءنا الثاني ففي المرّة الأولى تقدّمت لطلب وظيفة شاغرة لديه فأخضعني إلى امتحان عزفٍ طويل ورفضني بعده قائلاً بأنّ عزفي قد أصابه بالتوتّر ولم يشأ إعطائي فرصةً ثانية رغم أن صديقتي المقربة حنان قد توسطت لي لكنّه قال لها بصراحة بأنه لم يشعر بعلاقة حميمية بيني وبين الآلة التي ألعبها! غريبون هم هؤلاء السوريون المثقفون وغريبة هي تعابيرهم! لقد أهان علاقتي بها وهي عشقي الوحيد في هذه الحياة؟ إني أمضي معها معظم أوقاتي وهي رفيقة وحدتي ومصدر رزقي! أصبت بالكآبة يومها وأسفت على نفسي ولم أشكُ لغيرها، هي الأقرب لي حتى من حنان!
نظرت إليه وكان نظره يسرح بعيداً كأنه قال ما قاله وينتظر مني تعليقاً فقلت أخيراً: “لو أنك حشرة لكان الخالق جعلك واحدة!”
قلتها بصوت مرتفع وندمت بعدها، ربما لم يكن بحاجة إلى تعليقي. بدا لي كأنه لم يسمعني أو لا يأبه أصلاً برأيي. مرّت خمس دقائق من الصمت المُطبق كدت بعدها أسأله لم استبقيتني، لكنّه قال: “لم أستطع دفنها... ماتت دون أن أودّعها”
نظرت إليه وبدا لي وجهه كأنّه منحوتة من صخر لا حياة فيها ففهمت حينها سبب الحزن والشجن في ألحانه. هو موسيقي لامع ذائع السيط نغمته مُسكرة شجيّة ومقطوعاته أقل ما يُقال فيها أنها رائعة. يقيم الحفلات في كل البلدان العربية وتتهافت عليه عدسات المصورين كما يتسابق إلى لقائه الصحفيون لأخذ حديثٍ معه في سبق صحفي يُعدّ مكسباً كبيراً للقناة أو الصحيفة أو الصفحات الإلكترونية.
-”كانت الصواريخ تتساقط كالمطر... وكانت هناك في المكان الخطأ والزمان الخطأ! رُفعت أشلاء الضحايا... ورُفعت أشلاؤها... لم أستطع توديعها!” قالها بحسرة كبيرة فأبكاني ولكنّه لم يبكِ. لطالما بدا لي كأنه “صنم” وطالما وصفته بذلك أمام حنان التي كانت تضحك من وصفي قبل أن تعترض على حكمي عليه. الليلة عزفت معه معزوفة مشتركة بين قيثارتي والبيانو خاصته، صفّق العازفون لنا في آخر المعزوفة أمّا هو فحيّاني بإشارة من يده ولما نظرت إليه، كانت عيناه مغمضتين ولم يفتحهما إلا وقد أشاح بوجهه بعيداً عني!
صنم!
لم أكن لآتي لولا توسلات حنان، فابنتها أصيبت بكسرٍ في يدها واضطرت إلى ملازمتها في المستشفى. طلبت أن أتمرّن مع الفرقة لكي أحل محلّها في الحفل الكبير الذي سيُقام مساء الغد. لم أكن لآتي لو لم يتصل بي هو شخصيّاً فكرامتي أغلى عندي من حاجتي الى النقود رغم أنه وعدني بمبلغ لم أحلم قط أن أتقاضاه عن حفلة واحدة إلا أني رفضت قبل أن أسمع اعتذاره عما بدر منه في لقائنا الأول.
-”أتوا بشيخٍ وبكاهن... هما فقط كانا في وداعهم... لم أودعها... ولم أزرها قط.. لا أعرف مكانها” مددت يدي وأخذت سيجارة أشعلتها وقلت: “ليس مهماً مَن ودّعها ههنا.. المهم مَن استقبلها هناك”
نظر في وجهي للمرّة الأولى ورأيت الحزن الكبير في عينيه السوداوين وسأل: “أتعتقدين هذا؟”
-”إني أؤمن به”
ارتاحت أساريره للمرة الأولى ذلك المساء وفاجأني بالقول: “كان عزفك رائعاً الليلة”
شكرته باقتضاب فأضاف: “أهلا بك في الفريق، طبعا إذا كنت ترغبين” قالها ببساطة فعلق دخان السيجارة في حلقي وسعلت طويلاً ولم أتمكّن من الرد، فسأل ممازحاً: “هل هذا يعني القبول؟” فابتسمت موافقة دون كلام لأن نوبة السعال تلك لم تكن قد انتهت.
-”أين تُطفىء سجائرك؟” سألته بعد أن اكتفيت من الدخان، فأشار بيده إلى الأرض فأبيت أن أرمي سيجارتي أرضاً لكنّه أصرّ فعدت ورفضت ورحت أبحث حولي عما يفي بالغرض فانتزعها من يدي ورماها كما أعاد بعدها رمي تلك التي كانت بين أصابعه.
-”سيأتي ياسر في الصباح ويلتقطها” قالها ببرود ممّا أثار حفيظتي
-”هذا استعباد للخلق! لم تترك للرجل قمامتك لينظفها؟!” سألته فعاد ونظر إلى البعيد وقال: “لأن عزّة نفسه تمنعني من التصدِّق عليه”
-”ماذا تعني بذلك؟” سألت عندما لم أفهم قصده فقال: “ياسر لاجئ من بلادي... لاجئ مثلي... بهذه الطريقة فقط أستطيع مساعدته”
فوجئت بما قاله وفهمت أكثر اعتراض حنان على وصفي له بالصنم فسألت ممازحة: “وهل يسمح لك وزير العمل بذلك؟”
حدّق في وجهي عاقد الحاجبين وأشار بإصبعه إلى المبنى وراءنا وقال جادّاً: “هذه مملكتي.. وأنا صاحب كل الحقائب هنا!”
-”كنت أمزح فقط” قلتها كمّن يعتذر فقال: “الفرق بيني وبين ياسر بأني لاجئ مع حصانة وهو لاجئ من دون حصانة!”
-”وما هي حصانتك؟” سألته فابتسم بمرارة وقال: “كلانا تهدمت منازلنا في سوريا.. كلانا فقدنا عائلاتنا وكلانا نزحنا... نزحت فاعتُبرت مكسباً كبيراً وهو نُظر إليه بأنه عالة كبيرة على المجتمع.. هو ممنوع من العمل من أجل المضاربة وأنا أعمل وأضارب وأقيم الحفلات ويصفق لي عند آخر كل معزوفة الشخص عينه الذي منع ياسر من العمل.. الصحفي عينه يحارب ياسر ويُجري التقارير لمحاربته يأتي إليّ في الوقت عينه ويتملّقني لكي يجري معي لقاء ينشر فيه أخباراً حصريّة عني! ... بالله عليك ألا يُسمّى هذا انفصاماً؟!” نظرت إلى الأرض خجلاً وبحثت عن سبب ذلك الانفصام فوجدت بأن الحصانة التي تكلم عنها ما هي إلا حصانة المال والشهرة بينما الفقير ليس له سوى ربّه وبعض المحسنين أمثال بطل قصتي الذي يرمي أعقاب السجائر أرضاً ليكسب اللاجئ الفقير لقمته من التقاطها!
-”يجب أن أذهب” قلت له بعد أن عجزت عن الدفاع عن نفسي وعن أبناء جلدي فنظر إليّ طويلاً بعينيه السوداوين ثم قال: “ابقي قليلاً بعد” ثم أشعل سيجارةً لم تكن الأخيرة لذلك المساء.
Comments