top of page
صورة الكاتبThe Ambassador Team

اللاجئ 2 - بداية جديدة

بقلم : ريتا فرنسيس جبور



-”هل من ينتظر عودتك؟” سألني فقلت لا فأجاب بسرعة ولا أنا، عندها سألته عن سبب استبقائه لي.

-”في المرة الأولى لكي أشيد بعزفك”

-”والثانية؟” سألت وأنا أراقب تعابير وجهه فأشاح بوجهه عني وقال: “لقد استسغت الكلام معك”

شكرته ووقفت لكي أغادر لأنه كان يجب عليّ أن أتمرن أكثر على “نوتات” المقطوعات الموسيقية لليلة الغد. تمنيت له ليلة سعيدة فلم يجب بل هزّ برأسه في توديعي. كان الافتتاح من أنجح الحفلات التي أُقيمت في العاصمة، وقد أكسبني ذلك الكم الهائل من متذوقي الموسيقا، وبعد كل تصفيق حار، ثقة أكبر بالنفس خاصّة بعد تلك المعزوفة بين بيانو بطلي وبين قيثارتي. تتالت حفلاتنا وجبنا بها معظم المناطق وخرجنا إلى بعض البلدان العربية ونالت جميعها نجاحاً منقطع النظير. تهافت الصحفيون على ذلك اللاجئ وأقاموا معه الحوارات على جميع القنوات الأرضية والفضائية والإلكترونية المحلية والعربية على السواء، وتذكرت مرارته عندما تكلم عن أنواع اللاجئين وابتسمت بأسف لأن ما حصل أكّد لي بأنه على حق فيما قاله.

نشأت بيني وبين العازفين الزملاء صداقات وودّ متبادل فمن بينهم أساتذة موسيقى كبار إلى جانب صديقتي حنان التي حين تعافت ابنتها، عادت واستعادت دورها في عزف جميع “نوتاتها” الأصلية باستثناء تلك التي أسميتها “معزوفتنا” والتي كانت الحوار الوحيد بيني وبينه على مدى شهر كامل رغم ادعائه بأنه “استساغ” الكلام معي. الحق يُقال إن جيبي امتلأ بالنقود المحليّة منها والعالمية الخضراء. قررت أن أصرف بحكمة لأن الجولة الموسيقية لا بد أن تنتهي و”مزراب “الدولارات لا بد أن ينقطع فابتعت ما هو مهم وأودعت ما تبقى معي في البنك. انتهى بالفعل العمل مع الفرقة الموسيقية وحان وقت الوداع المؤقت إلى حين جولات و”بروفات” جديدة. دعا البطل جميع أعضاء الفرقة إلى مطعم قريب وبعد العشاء عدنا أدراجنا لكي نلملم أغراضنا من الاستديو. تواعدنا على ضرورة التواصل فيما بيننا وتبادلنا أرقام الهواتف والعناوين الالكترونية وما إلى ذلك. حملت قيثارتي ومشيت بخطىامتباطئة أردت أن أشكره على كل شيء وعلى الثقة التي أعطانيها ولكني ترددت، فبعد مضي شهر كامل من السذاجة شكره! بحثت عنه في الخارج لكنه لم يكن على حافته الحجرية. سيارته ما زالت هنا. عدت فلم يكن في مكتبه بل على المسرح. شدني صوت البيانو فدخلت وجلست على مقعد في صالة عجّت في الأيام السابقة بمئات المتفرجين. بدا لي وكأنه ينظم لحنا جديد، لحناً فيه ما في غيره من الشجن الذي يلامس الروح. لست أدري ما تعمله بي موسيقاه... لا أعرف من أين تأتي أنامله بهذا الإبداع المفرط وتلك الغزارة من أي نبع تفيض؟ عزف وأعاد العزف وتسمرت عيناي عليه لا أقوى على الحركة لكيلا يغيب أصغر تفصيل عني أو لكيلا يراني ويتوقف عن العزف مجاملة.

استمر الأمر كذلك ما يقارب الخمس دقائق ولما توقف نظر إليّ مباشرة وكأنه رآني أدخل أو كأنه شعر بوجودي فصفقت له وطأطأ لي رأسه في التحية. مشيت باتجاهه ونسيت أن أحمل آلتي وحقيبتي ولما تنبهت استدرت لكنه قال: “اتركيها أشياءك وتعالي”

لست أدري لم ارتجف قلبي لقوله لكني تماسكت وأكملت طريقي فإذا به يسبقني ويخرج إلى زاويته المفضلة في الخارج ويشعل السيجارة قبل أن أجلس إلى جانبه على الأرض.

-”هل تؤمنين بجنون الفنان؟” سألني فقلت نعم لأنه كان لي منه الكثير

-”أتتحايلين معي على الحزن؟” سأل فعقدت حاجبي لأني لم أفهم ما قصده

-”هل تقبلين ملازمتي عندما أؤلف الموسيقا؟”

-”ومتى يكون ذلك؟”

-”لست أدري” قال بسرعة وكأنه تراجع عما قاله

-”هل تعلم متى تفيض عليك قريحة التأليف؟”

-”في جميع الأوقات”

-”هل هذا عرض غريب بالاقتران؟” سألته فنظر إلّي بعينيه السوداوين اللتين لمته في البدء على قسوتهما، نظرة عميقة فيها الكثير من الترجّي. تناولت سيجارة وأشعلتها فقال: “كانت أصابعي ثقيلة على مفاتيح البيانو ولما دخلتي... باتت وكأنها تتراقص بخفة كبيرة”

صمتت... لم أكن أتوقع كل هذا... كنت أبحث عن حجة أبدأ بها كلامي معه وهو يكاد يقول بأني ملهمته!

-”كوني تلك التي تعيد الفرح إلى نغماتي” قال فجأة

-”وهل تعتقد بأني كتلة فرح متنقلة؟”

-”كوني لي كتلة الفرح المتنقلة... ولا تبتعدي” قالها بصدق فبدل أن أختنق بالدخان أدمعت عيني لا أدري لم.

-”يجب أن أذهب” رميت السيجارة من يدي وسارعت في الوقوف والركض نحو سيارتي وتنبهت بأني نسيت أشيائي في الداخل. سارعت وجلبت حقيبتي وقيثارتي وعدت وخرجت. كان لا يزال يجلس في مكانه بكل بساطة وكأن شيئا لم يحصل. وكأن الانفجار حصل فقط في داخلي فمزقني ولم يُصب هو بشظية واحدة!

فتحت باب سيارتي ووضعت آلتي في المقعد الخلفي ثم تنبهت بأن إطار سيارتي مثقوب وتسرب كل هوائه في الهواء. تساءلت ما هذا التوقيت الغريب بينما ذلك الغريب الأفكار ينظر إلى البعيد غير آبه بما يحصل معي ولا يتقدم للمساعدة!

-”ياسر في طريقه إلى هنا” قال عاليا

-”إطار سيارتي مثقوب” قلت بحزن وعدت أدراجي أجر خيبتي وأجلس من جديد إلى جانبه

-”أعرف ذلك.. بل هناك إطاران مثقوبان” قال ببرود فنظرت إليه باستغراب

رفع يده بمسمار حديدي طويل واعترف: “لقد ثقبت إطارين بهذا”

-”هل أنت مجنون؟!” صرخت بغضب وكادت عيناي أن تخرجا من وجهي

-”لقد اعترفت بالجنون منذ بدء كلامي معك” قال ببرود بينما كان الدم يغلي في عروقي

-”اسمع...” قلت ورفعت إصبعي في الهواء أهدده لا أذكر بم لكنه قاطعني قائلا:

-”اسمعي أنت.. سيأتي ياسر ومعه إطارات جديدة”

-”لم فعلت ذلك؟”

-”لكيلا أترك لك المجال للهرب”

-”لقد خططت للأمر مسبقاً” اتهمته فوافق بسرعة وأكد بأنه فعلها منذ أن وصلت

-”لن تستطيع احتجازي هنا رغما عني”

-”لن أفعل” قال ببرود وكأنه صنم يتكلم

-”سأطلب سيارة أجرة”

-”ألا تتحايلين معي على الحزن الذي يخيم على حياتي وبات يخنقني؟!”

احترت في أمري وتضاربت مشاعري تجاه ما يقوله وما يفعله.. يستحق كرهي لما فعله ولكن أيحق لي أن أكره ما قاله؟ إنه مجنون حزين يختنق ويستغيث بي وكأنني أم تكفكف دموعه كأني ملهمته أو كأني ... شبح في الأوبرا!

-”ما المطلوب مني فعله؟” سألت بحيرة

-”أن تكوني هنا”

-”لقد أمضيت شهراً كاملاً هنا”

-”كنت تعزفين معي وتنتظرين التصفيق من الجمهور مثلي”

-”وما الفرق؟” سألته فنظر إليّ بإمعان كأنه يدرس تفاصيل وجهي

-”أن تجلسي في مقعد المتفرجين... وأشعر بوجودك وأنتظر تصفيقك لي”

-”وهل هذا ما حصل اليوم”

-”كان اختبار” قال بسرعة

-”هل ثقب إطاراتي جزء من الاختبار؟”

-”كانت الطريقة الوحيدة التي أضمن فيها بقاءك”

-”سيارتي لن تتأقلم مع الإطارات الجديدة.. فهي معتادة على الإطارات المهترئة”

-”لاحظت ذلك”

-”يجتاحني شعور متناقض تجاهك” قلت صادقة فنظر إلى البعيد كأنه لا يجرؤ النظر إلي واعترف:

-”وأنتِ فيك من سحر الأنوثة ما يجعل دمي يغلي في عروقي... ويتفجّر ألحاناً عذبة... وجودك في حياتي يجعل كل ذرة في كياني... مبدعة تقطر الألحان”

أخذت سيجارة وقبل أن أشعلها قال: “لقد أثبتِ بالدليل بأنك مدخّنة مبتدئة وفاشلة”

ضحكت فقال بعد أن تغيرت ملامحه وأصبحت جدية: “يمكنني أن أنظم على كل ضحكة تضحكينها سمفونية كاملة”

مد يده باتجاهي فتلبّكت، شعرت بأني أمام مفترق طرق مصيري. كان الهروب آخر خياراتي أعطيته يدي أخيراً لأن جنونه يشبه جنوني...


٠ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

كي لا ننسى .. احنه مشينا للحرب

بقلم: نزار العوصجي ذات مرة في الثمانينيات جلست وأنا مسافر بالقرب من فتاة تبين أنها من البصرة، وهي طالبة في المرحلة الرابعة بجامعة صلاح...

Comments


bottom of page