top of page
صورة الكاتبThe Ambassador Team

النقطة الثالثة .... بين التفكير والحفظ !

بقلم: حسام الصعوب

يمتاز بعض البشر والمشرقيين بشكل خاص، وحتى أكون دقيقاً، أغلبية المشرقيين وتبعاً للبيئة التي يعيشون فيها، بالمغالاة في تقدير مَلَكَة الحفظ نسبة الى غيرها من المَلَكَات العقلية!

فمن المحبب أن نستخدم في حواراتنا اقتباسات لمفكرين أو أدباء أو فلاسفة، لطالما أن هذه الاقتباسات تأتي في سياق تمكين فكرتنا أو صياغتها أو حتى منحها المزيد من القوة والدلالة في معرض نقاشنا مع الطرف الآخر، لكن المستهجن تماماً والمستنكر بشدة، أن تتحول هذه الاقتباسات إلى أفكار مقدسة في وجه من هو ليس مقتنعاً بها أساساً!!

فكيف لطرف أن يطالب طرفاً آخر باعتناق فكرة لمجرد أن الأديب أو الفيلسوف فلان _ مهما كان شأنه وعلت قيمته الفكرية _ مقتنع بها !! أم أن الأمر في حقيقته وجوهره ينطوي على نوع من التصغير ورسم الحدود ؟! كما لو أن هذا المقتبس يقول ضمناً لمن يقابله: (الزم حدودك ، من أنت لتعارض فكرة أتت بها إحدى أهم القامات الفكرية في زمانها، من أنت لتضع نفسك في مقارنة مع هكذا قامة، الزم الصمت و احترم نفسك!) وينسى مقتبسنا الكريم في خضم نشوته بما يعتبره تفوقاً في الحفظ، أن الحوار يكون فكرةً مقابل فكرة وليس شخصاً مقابل شخص!

ولمثل هذا المقتبس تحديداً، يمكننا أن نتوجه بسؤال ثقيل بعض الشيء: من هو الأجدر والأقدر على منح الكلمات معناها وعمقها الفكري؟ مكرر هذه الكلمات غيباً! أم من يمتلك القدرة على استنباطها من تجربته وواقعه؟ وإذا وافقنا _ أي مقتبسنا _ على أن من يستطيع صياغة فكرة توصل إليها بناء على تجربته هو الأعلى كعباً من سواه، فكيف ستكون ردة فعله إذا ما توصل أحدنا لصياغة عبرة كتلك الاقتباسات التي يحفظها _ مقتبسنا _ دون دراية أو معرفة سابقة بالفيلسوف أو الأديب الذي سبق وقالها !! هل سيعطيه القدر الواجب من الاحترام والتبجيل؟!

إن مشكلة البعض مع ما يحفظونه، أنهم لا يراكمون ما يحفظون كأساس معرفي ينطلقون منه لبناء جديد، سواء أكان هذا البناء تطويراً لفكرة سابقة، أو انتقالاً لفكرة جديدة، وإنما يستخدمونه مراراً وتكراراً كحقائق مطلقة مقدسة، لا يجوز الاختلاف معها لأننا إن فعلنا نختلف مع قائليها، وتبعاً من نحن لنختلف مع الأدباء والفلاسفة والمفكرين؟! كما لو أننا بشرٌ وهم منزلون!! وهذا بالضبط ما يعيدنا مرة تلو الأخرى، إلى آخر الرتل ..

إن خطورة هذا الوضع لا تكمن فقط في مصادرة الحق المجرد في التفكير والالتزام بما قيل وحُفِظَ سابقاً، وإنما تتعداه إلى مفهوم الاعتياد! وكأنما كل فكرة جديدة، وكل طرح خارج عن المألوف المحدد وفقاً لما تم حفظه من قبل، ما هو إلا عدو لما اعتدنا إعادة تكريره واستهلاكه من الأفكار والمعتقدات، وبالتالي وجب محاربته بدلاً من مناقشته!!

ولعل أقدم طرق هذه الحروب الفكرية وأكثرها جاهلية، الانتقال من تقديس الفكرة إلى تقديس قائلها ضمناً ودون دراية أو نية مسبقة! مهما كانت القضية المتداولة بسيطة ومهما كان مكان طرحها! وإذا استغرب البعض كلماتي هذه، لهم كمثال بسيط في متناول اليد، أن يجربوا انتقاد أي مشرف على صفحة من صفحات التواصل الاجتماعي، ويحللوا بعضاً من ردود مريديه على انتقادهم هذا، سيجدونها نسخة ( لايت ) من التقديس!!

عند البعض بكل أسف، يتسلل تقديس الأفكار المحفوظة _ بدلاً من مناقشتها _ تحت أظافرهم ودون إذن أو قصد، كما يتسلل الغبار من النوافذ الموصدة، وعطفاً على نقطة علامنا الثانية عن الحقائق المطلقة: إذا كنا لا نسمع بعضنا بعضاً عندما نعتقد بإطلاق أفكارنا، كم سيكون الوضع أشنع إذا اعتقدنا بقداسة قائليها حتى ولو كانت قداسةً (لايت)!

وفي النهاية تبقى فكرة تحوم في الذهن: لو أننا جميعاً كبشر، وأدنا كل فكرة جديدة وخارجة عن مألوفنا في مهدها، لكنّا حتى تاريخ هذا المقال، ما نزال نسكن في الكهوف؟!


٠ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

كي لا ننسى .. احنه مشينا للحرب

بقلم: نزار العوصجي ذات مرة في الثمانينيات جلست وأنا مسافر بالقرب من فتاة تبين أنها من البصرة، وهي طالبة في المرحلة الرابعة بجامعة صلاح...

Comentarii


bottom of page