بقلم :الشاعر أحمد جليل الويس
لم أكن أبداً أن أتخيلَ في أحلامي التي نسيتها ذاتَ حرب في جعبةٍ من وهم أن تتحول تلك المدينة العاجة بالحياةِ والضوضاء إلى مدينة أشباح، أو هكذا تبدو للرائي من بعيد، هذه المدينةُ التي ابتكرتْ لونَ الحضارةِ وانكسرَ على أسوارها آلاف الجيوش، وأحلام الغزاة، هي المدينةُ التي كانتْ للعالم جرة حكايا سحرية، كيف بين ليلةٍ وأخرى تتحوّلُ إلى مدينةٍ/جثةٍ لا حياةَ فيها.
وأنا أمرُّ بشارعِ السموألِ .. أتأملُ حكايا العَرائِسِ فِي هَذا الشَّارعِ .. أتأملُ حكايا جداتنا اللواتي كنَّ يخفنَ من “سعلوةِ الشطِ” بينما حفيداتهنَّ اليوم يركنَّ في غرفهنَّ لا كأميراتٍ مدللاتٍ، بل كضحايا محجوراتٍ فسي غرفٍ نصفُ مضاءةٍ بالأمل، يبدو أنَّ “سعلوةَ النهرِ” تتغير كلَّ زمانٍ ومكان، لكنَّ في هذا الزمن الخالي من الإنسانيةِ يبدو كلُّ شيءٍ ممكناً، فقد تتحولُ الغيلانُ إلى حقائق بتسمياتٍ مختلفةٍ، هل هناك من منفذ، هل هناك من تفسير، هل هناك من مخلّصٍ أو منقذٍ يمكن أن يطهر أرواحنا من أدرانها التي اكتسبتها في زمن كورونا.
بغدادُ مثلَ قهوةٍ عربيةٍ شديدةُ التأثير بمن ذاقها، ولكنها اليوم بلا طعمٍ ولا لونٍ ولا رائحةٍ والسبب هذا الضيف الثقيل الذي جاءَ بلا موعدٍ مستغلاً طيبةَ العراقيين، وكرمِ أخلاقهم،ضيفٌ أرعب الجميع، وأوقف الحياة، وأسدل الستار على تلك الضجة الدافئة التي كانت متعة البغداديين بشكلٍ خاص، والعراقيين بشكل عام، هل هي لعنةُ الربِّ لما آلت له أنفسنا التي اهتمت بالمظهر ونسيت الجوهر، ربما، هل هي حربٌ عالميةٌ ضحيتها الأبرياء، ربما، هل هي حالةٌ عرضيةٌ تنبه الإنسان إلى زمنٍ لم يعد فيه للإنسان قيمة، ربما، والأسئلةُ تتوالدُ مثلَ هذا الفايروس الذي غزا العالم بلا سابقِ إنذار.
قد تبدو المشكلةُ هنا كبيرةً، لكنَّ المشكلةَ الأكبرَ تكمنُ في ضحايا هذا القاتلِ الخفي بزيِ ضيفٍ سرقَ من ضوءِ حياتنا نورها ومن مشاعرنا دفئها، ولا يتوانى أن يقطف بمنجل الموت سنابل أرواحنا، إنهُ زمنُ الكورونا، ضحايا هذا القاتلِ لا يُسمحُ لهم بالدفنِ في المقابر، فكلما توجهَ أهل الضحايا إلى مقبرةٍ أغلقتْ بوجههم وكأنَّ حتى الموتى يعترضون، هل سينتقلُ هذا الفايروس إلى الأموات فيسكنَ في أرواحهم التي ربما كانت بخيرٍ في ملكوتِ الربِّ ؟ ربما لم يدرِ فأنا لم أجرِّبْ الموتَ سابقاً لكنني تذكرتُ بيتين من الشعر لصديقي الشاعر محمد البغدادي، بيتين فيهما من العمقِ ما يكفي لأن يكونا لسان حال هؤلاء الضحايا، يقول فيهما:
وجهي إنتماءٌ إلى الموتى .. دمي مرضُ
لا بالحـــياةِ ولا بالمـــوتِ لــي غَــرَضُ
لــم أعتـــــرضْ وأنا حيٌّ على أحـــــــدٍ
ومـتُّ .. فإنتفــضَ الأمواتُ وأعترضـوا
Yorumlar