top of page
صورة الكاتبThe Ambassador Team

سنبقى




بقلم: رفيف تركي

في أثناء نشأتنا في تلك البلاد البعيدة الجميلة جُبِلْنا على فهم تعاليم كثيرة، ومعلقات ومقدسات ومسموحات وممنوعات عُلِّقت كلها بتؤدة وفن على جدران وجداننا بوعي منا أو بدون وعي، وباعتقادي بأنها علِّقت ْبطريقة الإجبار المبطن بساتان ثمين منقوشة عليه طبعات الكشمير الخالدة، تماماً كفرمان ملكي، بمعنى أشمل، عُلّقت غصباً عن الزمن.

من أهم تلك المعلّقات وأقدسها معلقتان شهيرتان إحداهما حول مفهوم التدبير والأخرى حول مفهوم المؤونة.

هم علمونا بأن التدبير ليس إلا تدبيراً منزلياً يتلخص في أن تتدبر سيدة المنزل أمرها لتقتصد في مصروفاتها، فتراها تصنع من كيس طحين واحدٍ خبزاً وحلوى ووجبة غذاء، وفي المساء تعيد هيكلتها لتصبح وجبة عشاء، وأيضاً تصنع من كيس الطحين نفسه فطوراً لأيام الجمعة والآحاد البهية، وكذلك أن تصنع من كرة صوف أو كرتين بلونين وكتالوج صوف إنكليزي قديم كسوة شتاء لأهل بيتها، أو أن تعيد تدوير فساتينها فلا تتغيب عن أي مناسبة اجتماعية وتكون في جلها حاضرة بهية. .

وبهذا تكون ملكة بيتها ،سيدة مدبرة يهابها العوز ويحسب لجلالتها ألف حساب.

ومع كل هذا التدبير الجميل نسوا تماماً أن يعلمونا أن ندبِّرَ أرواحنا ونتدبر فقرها ، أن ندبِّرَ آلامنا وأفراحنا، أن ندبِّر ّ أشواقنا والمسافات الطويلة وغصات ليست كالغصات وجراحاتنا، نسوا تماماً أن يعلمونا كيف ندبِّرً ضحكاتنا حتى تكفينا طوال اليوم ، أن نتدبر قسوة المرايا واختلاف وجوهنا على انعكاساتها وحنيننا للمرآة الأولى ،أو حتى كيف نستيقظ في مكان بارد بعيد تحيطنا وجوه غريبة فنقوم قسراً لنفتتح مصنعاً للابتسامات ونقص الشريط الحريري إيذاناً بطبع عدد غير محدود منها وتوزيعها على الجميع ، نعم نوزع ابتسامات مجاناً للجميع.

تراهم لم يتخيلوا أن تصبح يوماً ما الضحكة جهاداً نؤجر عليه والابتسامة مشقة !!

أما عن معلَّقةِ المؤونة فهم أيضاً علمونا بأن نموِّن ثمار الصيف الضاحكة لأيام الشتاء العابسة، علمونا فلسفة النمل، ورأينا بأم أعيننا كيف كانت تكتظ شرفاتنا بحبائل البامية وصواني المربيات بألوانها القوس قزحية، وسجاجيد الفستق الحلبي بغنجها ودلالها ، وشراشف عريقة ترسم فوقها أوراق الملوخية لوحات راقصة أحياناً مبهجة وأحياناً أخرى حزينة، ومواويل الباذنجان من عقلة الأصبع الغارق بالسكر إلى ذلك الشيخ المهيب تحيطه حاشيته ، عداك عن بورتريهات الفليفلة الحمراء التي تكاد تطرز شهر آب بكل غطرسته على كل الشرفات وبعضها صغرت أم امتدت وكبرت. ..

ومع كل هذه المؤونة وفلسفاتها نسوا تماماً بأن يعلمونا أن نموِّن أخلاقنا، حتى تكفينا إبان الزمن المكفهر والأشخاص المعاد تدويرهم، أن نموِّنَ كتبنا المقدسة وآياتنا حتى تكفينا إبان غزو الحشرات في هيئة نحلات في عصر بلا فجر ولا عصر، أن نموِّنَ أغانينا وألبومات صورنا وكلمات سمعناها فجودت محراب أرواحنا لتكفينا الحاجة في ذات الصباحات الباردة الموحشة، وأن نموِّنَ حتى غصاتنا وأحزاننا ليوم قد تخور فيه كل قوانا فتصبح حتى الغصة ترفاً.

اليوم فهمت لماذا احتفظت جداتنا بكل الأشياء القديمة، بالصناديق الخشبية وفوانيس الكاز العريقة وكراسي الأبيسون الميتة الحية، كُنَّ يسخرن من أسئلتنا بابتسامة حكيمة يهرب منها الزمن،

اليوم فهمت !

فهمت بأن شعباً يلصق علبتين فارغتين لم يكن ينتظرهما حكماً سوى صندوق القمامة ليصنع منهما سراجاً يستضيء به هو شعب يتقن النور

وأن شعباً يصنع من المخلفات وقوداً للبوابير فيتحلق حولها الأطفال بشعرهم المشعث وأهازيجهم هو شعب يتقن الدفء ..

وأن شعباً يصنع لأطفاله مراجيحَ من البقايا وبقايا البقايا ويغني لهم وهو يدفعهم بقوة لا يعلم حتى كيف أتته لهو شعب يتقن الفرح. ..

ومع كل الذي نسوا أن يعلمونا إياه فنحن شعب صقلته النوائب وجوّدته التجارب فأصبح جديراً بالحياة .

هاهم بدأوا يفهمون كيف تفك شيفرات الشعوب ، ويوماً ما ستشتهينا كل البلاد المتحضرة ، ليس لأجل سواد عيوننا ، بل لأنهم سيفهمون بأن الشعب القادر على خلق وطنه داخل كل الأوطان إذا ما رحل عنه لهو شعب قادر على صياغة قصة جديدة للحضارة إذا ما تهيأت له الآفاق. ..

كم حضارة ستبنى على جبل إصرارنا ؟

وكم حضارة ستثرى بِنَا بينما نحن نذوب ؟


٣ مشاهدات٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

كي لا ننسى .. احنه مشينا للحرب

بقلم: نزار العوصجي ذات مرة في الثمانينيات جلست وأنا مسافر بالقرب من فتاة تبين أنها من البصرة، وهي طالبة في المرحلة الرابعة بجامعة صلاح...

Comments


bottom of page