top of page
صورة الكاتبThe Ambassador Team

قصة قصيرة..... أفكارٌ مركّـَبة !

بقلم: حسام الصعوب

على غير عادته، شق زحام المارة والأرصفة المكتظة بضجيج من يقف عليها ويفترشها، دون أن يلقي بالاً لأصوات الحياة! من ساحة “باب توما “ قدماه تتسارعان كضوء يبحث عن نهاية للنفق، لا يسمع صهيل أنفاسه المعتاد بينما يكاد فلتر سيجارته الأولى يلتصق بشفتيه كجنين في رحم أمه.

على وقع إيقاع قدميه، أدرك أنطون بأنه يرى كل شيء حوله ولا يراه! ثم هناك تفاصيل على جانبي السبيل، ميمنة وميسرة، عاشقان يسندان حائط منزل قديم بكتفيهما على طرف الزقاق ، وامرأة تعنف طفلها وهو يبكي في حسرة على لعبته المبعثرة على الإسفلت عبثاً هناك، وامرأة مسنة ترفع رأسها وترمقه بنظرة من الإعجاب والاشمئزاز في آن معاً! وزهرة من الياسمين زُرِعت بغير قصد على حائط من الطين العتيق، كل هذا وأكثر، يقبع مجتمعاً في السماء التي صعد إليها أنطون، بضع درجاتٍ تسمى: درج باب توما.

لكن أصواتهم وعلى غير العادة لا صوت لها! ولا يكاد يميزهم لولا حركة الشفاه!

_ آهٍ من الشفاهْ ..

يتنهد أنطون فكرته وكأنها الهواء، ويتصاعد أزيز الخواطر في رأسه:

_ هل ستسمح لي بأن أقبلها في موعدنا الأول؟ أو هل عليّ أن أنتظر المبادرة منها !! فهي بعد كل شيء مغتربة !! لابد أنها تأثرت بثقافة الغرب الاجتماعية وعاداته !!

وفجأةً تغشى عيناه بمشهد لقائهما البكر البارحة في إحدى حفلات أعراس الأقارب، يذكر كيف سألته مصادفةً عن الأهزوجة التي كان أهل العريس يغنونها، وكيف بدأ يشرح لها تاريخ المنطقة بأكمله عندما عرف بأنها هاجرت مع أهلها منذ كانت صغيرة إلى كندا واستقرت في مقاطعة كيبك

_ لكن .. ماذا إذا قبلتها وتطورت الأمور ؟! ماذا لو افترضتْ بأني جادٌّ وأريد الارتباط بها !!

توقف لحظة مع هذه الفكرة المريبة، ونظر إلى عواء مركبة في الحارة الضيقة بدلاً من أن يسمعها! وقف دقيقة صمت، ثم قادته قدماه إلى عنق حارة (القصبة) المرصوفة بحجارة من ذكريات العشاق في دمشق القديمة، مع فكرة جديدة ..

_ وليكن، لا عيب في أن أرتبط بها وأسافر معها إن أردت، وعندها سأكون زوجها الذي يسمح ويمنع بما يريد، نعم ستكون مدركة سلفاً بأنني شرقي، ولن تحاول استفزازي بواحدة من تصرفاتها الكندية .. لابد لي أن أشرح لها ذلك .. وإلا سأتركها .. نعم سأتركها ..

تقاطع معمعة أفكاره وشهيقها وزفيرها، قهقهة فتاة تحتل الحارة بجمالها، وتسدل شعرها كمتراس حريري حول جيدها، وبدون دعوة! يرافقها كظلها شاب يكاد يكون بلا ملامح مقارنة بالهالة التي تشع من وجهها!!

لم يستطع شيء من كل الضوضاء المتفشية من باب منزل أنطون وحتى هنا أن يتدخل عنوةً بينه وبين أفكاره، سوى تلك الحسناء التي يلف كتفها ذراع ذلك الظل !!

_ له الحق في أن يمسكها، لو كنت في مكانه لخفت أن تطير!

يهمهم أنطون في حسد، يبصق سيجارته المنتهية، ويشعل سيجارة أخرى بغضب وكأنه يعطي الشعلة الأولى لموقد في جهنم!

_ لكن ماذا لو كانت “ دَيَا “ كتلك الحسناء المارقة! ماذا لو كانت لها علاقات سابقة! لم يتسن لي الوقت كي أسألها! ولكن ماذا لو سألتها وأجابتني بنعم ؟! أم ماذا لو أنها أخفت عني بعض التفاصيل؟ ماذا لو أنها سمحت لأحد بأن يحاصر كتفها أو خصرها أو ..

يهز أنطون رأسه وكأنه يفرغها من محتواها، يقف في مكانه متجمداً لهول ما خطر له!

_ مستحيل! لقد راقبتها طوال حفلة العرس، لقد كانت متحفظة أكثر حتى من فتيات عائلتنا !!

يرتاح لهذا الخاطر المخدر، لكن عينيه تجحظان في سرعة الضوء ..

_ لكن ماذا لو كان هذا تمثيلاً أمام ذويها ؟! ماذا لو كانت تدعي البراءة في محيطنا الاجتماعي مراعاةً لهيبة والديها وإخوتها !! ألم تعطني رقم هاتفها بسرعة خاطفة وتبتسم فرحة ً كفرس أصابت قلب فارسها، عندما عرضتُ عليها جولة في دمشق القديمة لأعرفها بالأماكن التي سمعت عنها ولم تزرها !!

يتسمر أنطون في مكانه ليدرك فجأة بأنه سيصل إلى مفترق الحارة التي سيلتقي فيها بـ ديا! لا يأبه للمكان! يحاول سحب سيجارته من فمه فتلتصق بشفتيه وتحرق منتصف اصبعيه، فيرميها حانقاً مع شتيمة تهتز لها أركان البيوت الوادعة! يشعل سيجارة جديدة وكأنه ممسوس ارتدته نوبةٌ من الهلع، ويتمتم بصوت مسموع: _ لن أسمح لها بأن تستغبيني! إذا كانت تريد التسلية فأنا خير من تسلى وعربد ..

يرتدي فجأة وجهه الحانق ويبتسم بمرارة ليقنع نفسه بيأس بأنه الزير !! فيمر به على مهل رجل مسن، يهز رأسه وصوت فقراته المتآكلة يكاد يكون مسموعاً، يعبره برفق وعمق، ليخاطب ربه بصوت أجش (أليس صغيراً بعد على الجنون يا رب؟)، لا يسقط قناع الزير عن وجه أنطون، يصم أذنيه عن كلمات عابر السبيل الصوفي، يحث الخطا إلى مكان اللقاء وهو يكاد يمسك وجهه بيده حتى لا يسقط القناع الذي ارتداه! ويردد الصدى بين جدران روحه المتأزمة:

_ تسلّ، نعم تسلّ بها، لا تذرف شيئاً من عواطفك، تعامل معها من البداية وإلى النهاية على أنها نزوة! سقطة! نشوة! صحيح أنه لقاؤكما الأول بعد حفلة العرس، لكنها مغتربة بارزة المعالم والمفاتن، لابد وأن كل ما فيها مباح، ولا عيب في أن تكون تجربتك الأولى .. نعم .. ستكون تجربتك الأولى، وعليها أن تفهم غايتك منذ اللحظة الأولى!

يهز رأسه لنفسه متصنعاً الثقة أمام نفسه! ليلمح ديا فجأة ً، واقفةً كسنبلةٍ مكتنزةٍ لا تهزها الريح على كتف حارة صغيرة كما لو أنها جدول من الجنة، يصل بين (القصبة) و (حارة جعفر)! رآها سنبلةً تُهْدِي رأسها للشمس بين حارتين وكأنها علامة على مفترق الحياة! استجمع كل غبائه في لحظة، وتقدم فاتحاً ذراعيه بنهمٍ ليحصدها، فأتاه صوتٌ أغرُّ كصهيلِ مهرةٍ أصيلة: (هل جننت؟ ما هذا الذي تفعله!) وذهبت الحارتان ومعهما أنطون .. في الغياب.


٠ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

كي لا ننسى .. احنه مشينا للحرب

بقلم: نزار العوصجي ذات مرة في الثمانينيات جلست وأنا مسافر بالقرب من فتاة تبين أنها من البصرة، وهي طالبة في المرحلة الرابعة بجامعة صلاح...

Comentários


bottom of page