بقلم: د. داليا حمامي
“أن يعيش المرء هذه الفترة الطويلة لكي يسحق حتى الموت بجرافة، هل هذا ما يعنيه أن يكون الإنسان فلسطينياً؟”
رواية تختصر مأساة شعبٍ هُجّر، وأرضٍ اغتُصبت، عبر حكاية أربعة أجيال تمتد من قبل نكبة الــ48 وحتى الاجتياح الأخير لمخيم جنين عام 2002.
رواية بينما ينام العالم هي الترجمة العربية لرواية (mornings in Jenin أو صباحات جنين) للكاتبة الفلسطينية الأمريكية سوزان أبو الهوى، التي كتبت معظم روايتها على لسان الشخصية “آمال” بطلة الجيل الثالث لعائلة أبو الهيجا.
“آمال” التي اعتاد والدها أن يقرأ لها روائع الأدب العربي وهي في أحضانه، قبل شروق الشمس، وبينما ينام العالم، ولمّا تتجاوز الخامسة من عمرها بعد.
لكن.. وبينما ينام العالم، تأتي نكسة حزيران 67 لترسم ندبة لا تمحى على وجه الأمة العربية.. كندبة “إسماعيل” الشقيق الأكبر لآمال، الذي خُطف وهو ابن ستة أشهر أثناء نزوح العائلة من بيتهم بعد تهجيرهم من قريتهم، فتتبناه العائلة اليهودية التي قامت بخطفه، ليصبح دافيد، الجندي الإسرائيلي الذي سام شقيقه “يوسف” شتى أصناف الضرب والإهانة وهو لا يدري.
وبينما ينام العالم تجتاح اسرائيل لبنان عام 1982 تاركة وراءها 17500 قتيلاً:
(رقد لبنان مدمّراً و منتهَكاً بلا بنية تحتية، بلا طعام أو ماء، واسرائيل تزعم أنها أُجبرت على الغزو من أجل السلام... “نحن هنا من أجل السلام... هذه مهمة لحفظ السلام”)
تذكر سوزان أبو الهوى في روايتها مقاطع من كتاب (رثاء الأمة) للمراسل البريطاني روبرت فيسك.. ومما جاء فيه في وصف القنابل الفوسفورية الإسرائيلية:
“كانت قصة الدكتورة أمل الشماع مروعة وانكسر صوتها وهي ترويها: اضطررت إلى أخذ الأطفال ووضعهم في أحواض من المياه لإخماد النيران، وعندما أخرجتهم لاحقاً بعد نصف ساعة كانوا لايزالون مشتعلين، وفي صباح اليوم التالي أخذت الدكتورة الشماع الجثث الصغيرة خارج المشرحة لدفنها، وما أفزعها أن الجثث اشتعلت بالنيران مرة أخرى.”
وبينما ينام العالم تحدث المجزرة المروعة في مخيمي صبرا وشاتيلا:
“على الجانب الآخر من الطريق وجدنا أجساد خمس نساء وعدة أطفال، واحدة مستلقية على ظهرها وثوبها ممزق ومفتوح، شخص ما كان قد شقّ بطن المرأة وفتحه بالعرض ثم إلى الأعلى في محاولة لقتل طفلها الذي لم يولد بعد، كانت عيناها مفتوحتين على اتساعهما، ووجهها الداكن متجمداً رعباً.”
وبينما ينام العالم تجتاح إسرائيل مخيم جنين للمرة الثانية وتسويه بالأرض، وتدفن عائلات بكاملها تحت أنقاض بيوتهم.
أقوى نقطة في الرواية هي الوصف.. للكاتبة قدرة على وصف المشاعر بشكل دقيق تهز روح القارئ من أعماقه، وتجبره على التوقف عدة مرات ليلتقط أنفاسه من جديد بعد هول ما قرأ لتوه، لتمتلئ عيناه بالدموع رغماً عنه مهما قاوم.. أذكر هنا وصف غضب “يوسف” شقيق آمال بعد معرفته بفجيعة شاتيلا:
“هاتفني يوسف صارخاً، كان الحزن في صوته يكفي لشق عنان السماء، هز نشيجه الأرض تحت قدمي، وظننت أن قوة حزنه ستمزق الشمس إلى أشلاء، بكى من دون أي حدود للسيطرة، ارتجف كفريسة في نوبة الوجع كمريض كزاز، كصوت الرعد، ضرب برأسه الحائط بلا رحمة وهو ما يزال يحمل الهاتف على أذنه، مازال يلعن، مازال يبكي، يطلق صرخات احتضار روحه.”
خسارة تلو خسارة.. صفعة تلو صفعة.. ضربة إثر ضربة أقوى.. هذا هو تاريخ فلسطين وتاريخ أبنائها المسلوب.. ما زالوا يحملون صور أجدادهم وصور بيوتهم ومزارعهم وحدائقهم، بينما يدّعي الصهاينة أن هذا تاريخهم وهذه بيوتهم وأرضهم منذ فجر التاريخ.
رواية مؤلمة، بل قاتلة.. تقتل في نفسك الرغبة في مشاركة الإنسانية والأرض مع وحوش لا تعرف الرحمة.
من الروايات القليلة التي لن تغادرك مهما حاولت، ولن تبقى بعدها كما كنت من قبلها، ستتركك محطماً حزيناً ممزقاً، لا تكف عن استرجاع مأساة الدم العربي المسفوك بلا هوادة تحت لامبالاة العالم.. وبينما ينام العالم.
Comments