بقلم: د. داليا حمامي
(لطالما شعرت بأن الناس هذه الأيام، يعيشون كما لو كانوا موظفين لدى الله، لا عباداً له، كما لو كان في إمكانهم أن يسيئوا له خلف ظهره، ثم يواصلوا التظاهر بالعمل)
هل قرأتم من قبل رواية نفسية؟
رواية تغوص عميقاً في نفس بطلها، بكل دقائقها وسوداويتها ودوافعها، المُدرَكة أو غير المدركة؟
تدور أحداث الرواية الأولى للكاتب السعودي عزيز محمد، والتي نجحت في الوصول للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية عام 2018، حول شخص يعاني بشكل واضح من عدة عقد نفسية، تزيد انطوائيته، وحبه للابتعاد عن الاختلاط المباشر بالناس، والأصدقاء و العائلة، واكتفائه بالكتب والروايات، وكأن هناك خيبة أمل عميقة في دواخله، بسبب علاقاته السيئة بأفراد أسرته، ورياء مجتمعه، يرى الدنيا من خلالها ويتحرك عبر فضائها، فيحاول جاهداً الحفاظ على مسافة أمان بينه و بين الجميع، ربما بسبب تأثره العميق بجملة كان يرددها والده له دائماً مهما فعل (لا تبالغ)، محاولاً تجريده من كل المبالغات، إن كانت حركة أو حتى عدم حركة، كي يظهر رد الفعل مجرداً صافياً، مما أورث البطل خوفاً من كل الأفعال وردودها، حتى لا يقع في حرج المبالغة، لكن سخرية الأقدار تكون له بالمرصاد دائماً:
(من المذهل أحياناً كمية العناء الذي أتجشمه كي لا أقع في موقف محرج، ثم انتهي بإحراج نفسي بقدر أشد).. كما يقول الكاتب على لسان البطل الذي يشعر دائماً بنظرات الآخرين الفضولية إليه، ويهمّه كثيراً ما يفكرون به نحوه، وما يقولون في سرهم عليه: (أتساءل متى تنتهي هذه الرقابة التي أمارسها على ذاتي عبر أعين الآخرين؟ لماذا دائماً هذه الخزي الذي لا ينقطع؟)
تمعن الأقدار في سخريتها منه، فتمنحه مرحلة متقدمة من سرطان الدم، وهو الذي طالما أراد محنة قاسية، كالتي عانى منها الشعراء والكتّاب، فأخرجت أفضل ما عندهم، على أمل أن يقدّم بدوره نصوصاً روائية مميزة، لكنه.. وبسبب المرض، يقع تحت آلام ومعاناة وضبابية عقلية، تمنعه من كتابة النص الأصيل الذي يحلم به، خاصة مع تحلّق الجميع حوله لمواساته وللقيام بالواجب، فيزداد نفوراً من الناس، وعناداً واستفزازاً لأفراد عائلته، الذين لا تجمعهم به صلة طيبة من الأصل، ويريدون اختفاءه من حياتهم، هو وإحراجه الدائم لهم.
النص عميق جذاب، سرده ممتاز شائق، رغم أنه عبارة عن حوار داخلي فقط، لكنه يصف الحالة النفسية للبطل بشفافية، وكذلك الآلام المريعة، لرحلة العلاج الكيميائي والإشعاعي لمرض السرطان.
الصور والتشابيه متنوعة، والمفردات المستخدمة قوية، لكنها مباشرة في بعض الأحيان، تناسب الحالة المزاجية والنفسية للبطل، الذي ضاق ذرعاً بكل شيء.
لا يخلو النص من الفكاهة أو الكوميديا السوداء في كثير من المواضع، أذكر هذا المثال عندما علم بطل القصة بإصابته باللوكيميا: (أخذت أستعيد تلك القصص وأنا خارج من المستشفى، منتشياً وفي حوزتي خبر جديد، كما لو أُبلغت للتو بأني حامل، فكرت أن أُبلغهم هكذا بابتسامة ساخرة، وربما ضحكة مكبوتة، كأني سأحكي نكتة، ثم تفضلوا: سرطان! بل يجب أن أقول كانسر، فهذا أشد رعباً وأغرب وقعاً، وأدعى للارتباك، وأنا سأتبسّم لكل هذا، بتحكّم كامل في تعابيري، ولعلّي أشفق عليهم، لأنهم ما زالوا في مرحلة الحذر من تسخين الأشياء في المايكرويف)
من المواقف المميزة في الرواية، إدراك البطل للسرطان الذي كان يتغذى على دمه في الخفاء، ويدمر أعضاءه بصمت، مستعيناً بلا مبالاة صاحبه، فيقول الكاتب: (الأمر مثل خلية من البق تنمو تحتك في السرير، وأنت تنام كل ليلة فوقها، دون أن تدرك هذا القرف الشره تحتك، ربما ترى آثار قرصات بسيطة على جسدك، و لا تلقي بالاً، لأنه ليس ثمة ألم بعد، ثم تتكاثر النقاط الحمر على جلدك، و تصبح مثيرة للشكوك والريبة، و يوماً ما تقرر أن ترفع المرتبة، و لحظتها يبدأ الوجع، لحظة رؤيتك لتلك الخلية السوداء البشعة الهائلة، و بيوضها التي أخذت تفقس مئات المرات، فقط أثناء تحديقك فيها، يبدأ الألم لحظة اكتشافك أنها أسست داخلك ما لا يمكن لك بعد الآن مكافحته، لأنك حتى لو عالجته، ستبقى تشعر بالضعف، لأنك ستبقى موضعاً محتملاً لإعادة الغزو، لأنك حتى لو نجوت، لن تتمكن من رتق الفزع الذي انشق في داخلك لحظة الاكتشاف.)
Comments