top of page
صورة الكاتبThe Ambassador Team

الحــرام


بقلم: د. داليا حمامي

ما هو الحرام حقاً؟

من هم الزناة حقاً؟

لماذا أفقر وأدنى طبقات المجتمع هي التي تدفع الثمن؟

لم المرأة دائماً وأبداً من يبدأ عندها كل شيء، رغماً عنها أو برضاها، وينتهي لديها كل شيء؟

رائعة من روائع الكاتب المصري يوسف إدريس، تؤكد لنا مجدداً أن العبرة ليست في ضخامة الرواية، فهي لا تتجاوز مئة الصفحات، ومع ذلك تتكثف فيها المشاعر والظلم والرمزية، إلى حدود لا معقولة من العبقرية، تعرض لنا صورة حقيقية بأدق التفاصيل عن مجتمع تنخره العنصرية والطبقية وازدواجية المعايير الأخلاقية.

سرد جذاب مشوق بمفردات بسيطة عميقة، لغة لا تعلى، وأفكار وإشارات تجعلك تدرك أن الكاتب إنما أراد إيصال فكرة معينة فأحب أن يحكيها كقصة، كالأم التي تريد تحذير طفلها المتمرد من خطر أفعاله، وما سيبنى عليها في المستقبل، فتخبره بحكاية تغلف بها حكمتها، ونصائحها وآرائها بذكاء حاد، لكن إن كشطتَ حواراً ما أو جملة ما، فسيظهر تحتها جوهر القصة وهدفها.. أذكر هنا على سبيل المثال فرحة أهالي القرية بمعرفة من هي والدة الطفل الحرام الذي وجد ميتاً، وعودة إيمانهم ببراءة وعفّة نسائهم:

(فأن يعود للناس إيمانهم شيء ضروري، فإن لم يعد على هيئة حقيقة فليعد شبه حقيقة، إذ أن الإيمان سوف يتكفل بها و يجعل منها حقيقة، والناس تريد الإيمان على أية صورة، فإن لم تجد ما تؤمن به في الواقع، آمنت به في الحكايات)

تقنية السرد المختارة ذكية ومناسبة لطبيعة الرواية، فالراوي العليم الذي يعرف خبايا وأسرار كل شخصية، وما تنويه في المستقبل وفعلته في ماضيها، يعطينا تصوراً واضحاً كاملاً عن كل الشخصيات وطريقة تفكيرها، وتقلل من الحوارات، وتبرز براعة الكاتب في سرد أفكاره، وإيصاله لمبتغاه.

المرأة في هذا النص أم مغلوبة على أمرها، أو قوية ذات إرادة صلبة حديدية تعرف كيف تصل لأهدافها بدقة وحنكة وخبرة:

(فأم إبراهيم كانت قد دخلت إليها من باب لا يخيب، باب الرجال و أسرارهم، الرجال... ذلك العالم المغلق البعيد كل البعد عن ليندا ومسامعها، بدأت أم ابراهيم تحدثها عنهم، بل عن أخص خصائصهم، حديث العالمة الخبيرة، حديث الجسد الذي لا يقوله الرجال أبداً إلى النساء، وأم إبراهيم ترقبها في دهاء الصائد الماهر، الذي ينتظر بصبر، إلى أن تبتلع ضحيته الطعم، ثم يبدأ يجذب برفق و هوادة، و دون أن يفزع الضحية أو يروّعها، إلحاح أم ابراهيم كان لا بد أن يتغلب على خجل ليندا، ويفتح أذنها البكر، إلحاح خبيرة، من تعرف كيف تتكلم، ثم تصمت حين يبلغ حب الاستطلاع بسامعتها أشده، وكيف تقطع الحديث فجأة إذا رأت الخوف الحقيقي، الذي يعقبه الرفض، يتسرب إلى سامعتها من هول ما تقول، تاركة للأيام والساعات والتأمل المنفرد، والتطلع إلى الشيء المحرم الجديد، أن تفعل فعلها، وتلين الحديد، وتجعل من الممجوج، مقبولاً ومعقولاً ومرغوباً).

أما الرجل في الرواية، فهو المتحكم في كل شيء، وكل رجل يجد رجلاً آخر يتحكم به ويفرض سلطته عليه، في دائرة تنتهي دائماً عند المرأة، وقد أشار الكاتب لهذا بطريقة ممتازة في قوله:

(خلع جلبابه وأخذ منها الفأس، ثم انتقى مكاناً ما لبث أن راح ينهال بالفأس عليه، و”عزيزة” قد جلست غير بعيد ترقبه، وتقارن بين حفرها وحفره، والفأس في يدها هي أقوى منها وأثقل، والفأس في يده هو، هو القابض عليها..هو المتحكم فيها..هو الرجل.. يلهث، ليس لهث المتعب، ولكنه لهث الرجل حين يعمل، لهث منتظم قوي وقور)

والحرام.. هو محور الحياة ومحركها الخفي، الاقتراب منه، الابتعاد عنه، تعريفه في كل مجتمع، الاتفاق عليه أو الاختلاف، هو ما يحدد معايير وأخلاقيات الناس، هو وعلى حد تعبير الكاتب في أحد المقاطع:

(هلل الأولاد لاقتراح زميلهم موافقين، مع علم كل منهم أنه شيء عيب لا تصح الموافقة عليه، وحين تبينوا أنهم جميعاً موافقون متحمسون، ازدادوا خفة وحماسة لتنفيذ الاقتراح، وكأنه لم يعد حراماً، وكأن الشيء الحرام إذا وافق عليه الجميع، أصبح حلالاً، لا شك فيه)

الحرام الذي يؤطّر ويحدد نظرة الفرد لنفسه، وللناس حوله، وخاصة النساء والزوجات والبنات والمطلقات والأرامل، إن كن يرتكبن الحرام الذي يرتضيه هو لنفسه أم لا:

(ترى كيف تكون فاعلة ذلك الحرام؟ أو على وجه الدقة.. كيف تكون الزانية؟ ما من مرة ذُكرت أمامه الكلمة إلا واقشعر بدنه، مع أنه كان له مثلما لمعظم الناس، علاقات قبل أن يتزوج وحتى بعد أن تزوج، ولكن كأنما كان يستبعد أن توجد نساء في العالم يخطئن مثلما تخطئ النساء معه، وكأنما من أخطأن معه لسن زانيات، الزانيات هن من يخطئن مع غيره)

الشخصيات متعددة نابضة بالحياة.. الحياة بكل مطامعها، بكل جشعها، بكل لؤمها وظلمها، تعرض لنا حكاية قرية تحت النظام الإقطاعي، يأتيها من خارجها عمال لقطف المواسم لقاء قروش قليلة، لكنهم في نظر الأهالي ليسوا أكثر من حثالة أو زبالة بشرية، لا يمكن أن يصدر الحرام إلا من نسائهم، متناسين دور الرجل فيه، الذي لا يظهر في الرواية إلا عند الفعل، ولا يطاله أي جرم أو عقاب، فيقع عليها كل الاحتقار والتعذيب والمهانة، لتعيد تمثيل مشهد الحرام الذي أخفته عن الجميع، في نهاية مفجعة ستبقى في ذاكرة القارئ طويلاً.


مشاهدة واحدة (١)٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

كي لا ننسى .. احنه مشينا للحرب

بقلم: نزار العوصجي ذات مرة في الثمانينيات جلست وأنا مسافر بالقرب من فتاة تبين أنها من البصرة، وهي طالبة في المرحلة الرابعة بجامعة صلاح...

Comments


bottom of page