بقلم : غسان فؤاد ساكا
لا تستطيع جريدة، أي جريدة في أي مكان، ان ترسم ملامحها وتحدد وجهتها منذ العدد الأول أو الثاني، لكنها تحاول أن تقدم المؤشرات الأولى لطموحها ووجهتها عبر الدرب الثقافي الطويل والصعب وليس من التهويل في شىء إذا قلنا أن اصدار جريدة ثقافية بطموح يتوسل الجدية والإبداع والتنوير هو دخول في مغامرة على نحو من الأنحاء، مغامرة البحث خارج المألوف والمنمط والمستهلك وهو ما تعكسه ردود الافعال المتباينة تجاه الجريدة منذ عددها الأول. ردود أفعال من قبل كتاب ومؤسسات وصحافة ومن فئات مختلفة تتراوح بين الاحتفاء وهو الغالب وبين النقد الحقيقي المسؤول الذي نصغي اليه ونستفيد منه وبين الهجوم الواعي لأهدافه. والهجوم الجاهل والعدائي، حيث أن هناك دائما رأياً مسبقاً ونمذجة عمياه لا سبيل الى نقضها، مع غض النظر عن أهميتها ومستواها. ومثل هذا الدور التنويري والتحديثي، في مناخ شتى، رغم كونه أصبح بداهة، تظل بداهة متجددة السجال والمراجع والمعطيات، ضمن شروط واقع خاص ونظل بحاجة للرجوع اليها والنقاش حولها، ما أحوجنا للرجوع إلى الكثيرمن البديهيات وتفحصها من قبل مثقفينا ومفكرينا بتبيان السياقات المتعددة لمنشئها وتاريخها ومسارها، في زمن شهد انفجار كل المفاهيم والرؤى التي سادت برهة وأفضت الوقائع والتاريخ بها ويغيرها الى العطب والهلاك
ما أحوجنا إلى ممارسة التنوير والإبداع ضمن شروط واقع موسوم دائما من قبل الآخرين وحتى من قبل أبناء جلدتنا وقيمنا وهمومنا ظلما، بانه واقع النفاق وليس واقع ابداع وابتكار. وعلى هذا النحو ترتفع سحب الأنانية ومعاني سرابها عند البعض لتغطي حقائق الواقع الفعلي وتغطي قامة التاريخ والخيال وابداعات الانسان بتحويله الى واقع الاسطورة والاستيهام ولتجعل منا رهائن مكفنة ومنمطة لهذه الشرنقة من الآراء المريضة والخرافية، مع أنه أصبح كنمط سلوك وقيم بعينها، ظاهرة عربية وليس أسير منطقة أو مناطق وحدها. ومن سخرية القدر أن بعض الذين يشتمون الزمن ضمن مطبوعاتهم وخارجها ويجعلون منه موضوع نقد وهجاء هم أفضل المستفيدين منه على الاطلاق انه الفصام في أقصى تجلياته وانحطاطه
والرد الوحيد كما أشرت ليس في النقاشات الفارغة وانما في الممارسة الثقافية والابداعية واطلاق طاقة التفكير والخيال والتجديد. فى كل الحالات تعكس هذه الصورة وضعاً طبيعياً لردود فعل الاخرين تجاه أي مشروع أو رؤية ، خاصة فى حقل الثقافة والفنون والمعرفة. لا ننطلق من فراغ في صنع مجلة وتأسيسها فمثل هذا الفراغ محض ادعاء، فأمامنا إرث الثقافة العربية بمجلاتها وصحافتها ومنابرها، لكنا لا نستطيع ولا يخطر على بالنا نسخ ذلك الإرث بمعطياته الخاصة زمناً وتاريخاً ومكانا، مما يذوب طموحنا في خضم العموميات وفقدان الملامح والوجهة الخاصة للمكان العماني وثقافته وعناصره المختلفة
فرحلتنا في هذا المكان وتضاريسه وإنسانه وتاريخه ، تراثاً ومعاصرة ، هو هاجس جوهري نطل من خلاله على التفاعل الخلاق بين مختلف روافد الثقافة العربية وجفرافيتها المتعددة المتنوعة
وفي سياق طموحنا والتماس مع ثقافة العصر الموارة بالتيارات والاتجاهات، ضمن هاجس الخصوصية وإبداعها وملامحها، نطمح إلى أن تكون جريدتنا متنوعة وشاملة من حيث الآراء والتعبيرات الفنية والثقافية أو من حيث تنويع المواد وعدم حصرها في اتجاه واحد، أي أن تكون مرآة شمول ثقافي وفني وفكري بما يعني ذلك من محاولة تركيب عناصرتلم شتات المواضيع ضمن وحده شاملة لتطويرها وتوسيعها، عدداً بعد اخر
حين ننظر في وضعنا الثقافي فلابد ان تتعدد زوايا النظر لهذه الوضعية فلا ننظر الى سلبها ومرابعها المقفرة والخالية وأن كان ذلك أحد خيارات مصير الكائن لكنا ننظر فيما هو قابل للنهوض والحيوية والانبعاث وننظر الى ما يستحق أن ندفع له تعب يومنا ومعاناة وجودنا وهو ماثل وموجود وينطوي على قيمته كخيار وجود وكتابة وأن في إرهاصاته وبداياته، نتوسل الانبل والأبقى خارج صخب السطع وبريقه السريع
فالثقافة في جانب كبير أصابها ما أصاب أنماط الحياة والسلوك من طاعون المظاهر والاستسهال الذي يغرف من نتاج أقلام ومجلات وصور بصرية مهيمنة تحاول تكريس كل ما هو مبتذل ومتوحش في النفس البشرية وأصبح الحيز الثقافي الذي يستهدف الحياة في صورتها الانبل والارقى ويستهدف الارث الروحي للمجتمع والاسلاف كهاجس تجديد واستمرار لا محي من الأخذ بأسبابه المتجددة، أصبح الاقبال عليه أمراً صعباً وبحاجة إلى جهود مضنية لجزء من هذا القبول ، مما يلقي العبء الاكبر والأكثر شفافية لالتقاط الجوانب المشرقة من التراث ونفض غبار الازمنة عنها بتجديدها وتقديمها الى الاجيال في اطار يلائم معطيات الحياة والعصر وبشكل أقرب الى بهجة المعرفة والألفة.
فأحد محاور الصراع في تاريخ البشرية كان صراع الذاكرة بين من يريدون محوها وتدميرها لصالح معرفة أو بالاحرى، لصالح وهم معرفي لا نسب له ولا جذور ولا تراب. وعلى هذا الاساس تمت ابادة شعوب ومجتمعات حيث قذف بها خارج ذاكرتها وتاريخها وخارج زمانها. فالحفاظ على الذاكرة وارومتها ونسبها المتناسل عبر الأجيال هو حفاظ على قوام الفرد والمجتمع والحفاظ على الطبيعية ألتاريخية للانسان. وما التراث والتحديث سوى مظهرين ينضويان بالضرورة في هذا السياق وخارج أي جدل عقيم لصالح الحفاظ والاحتماء بالذاكرة في صراعها الابدي.
ليس هناك من اتجاه بعينه يفرض صرامته على الجريدة كما تروج لذلك ثقافة الاشاعة في البلاد قبل صدورها املاً في الا تصدر وبعد بدء صدورها وكما يروج اولئك الذين يضيقون ذرعاً بأي شىء جديد وخارج سياق العادة المتراكمة عبر أزمنة الجمود والتخلف وكما يروج أيضا اولئك الباحثون عن دور عجزوا عن إيجاده على أرض الابداع والكتابة والحياة فتحولوا الى نسيج شبحي لابداعات متوهمة لم يبق أمامهم إلا سقف الثرثرة ومضغ خرق الكلام البالية …
ليست جريدتنا من ذلك وإلا لما كلفنا أنفسنا عناء مسؤولية كهذه في وقت لم نعد قادرين على تبديده بترك الحبل على الغارب ، في وقت نحن بحاجة إلى كل ذرة منه إلا أن مسؤولية إصدارها ضمن عناصر مناخ خاص ومحاولة إثراء وضعنا الثقافي بما يقع في حدود مقدرتنا، ليس ضياعاً للوقت وإنما مسؤولية جوهرية وإضافة لإرث الثقافة والتاريخ ومحاولة إمساك بالزمن من ناصية الحقيقة. إن جريدة السفيرضمن هذا المعنى ملك لكتابها وملك للآراء والإبداعات المستنيرة والصادقة من كافة الاتجاهات والأعمار والجهات.
Commentaires