top of page
صورة الكاتبThe Ambassador Team

كورونا.. جائحة الصدمة

بقلم رحمن خضير عباس


قد تكون جائحة كورونا هي أول اختبار حقيقي تتعرض له البشرية في عصرنا الحديث، ومن حسن حظنا نحن البشر الذي نعيش في

بواكير هذا القرن، إن وسائل الاتصال قد بلغت أعلى مدياتها، وبأشكال مجانية من خلال خدمات الإنترنيت الذي فجّر ثورةً في مفهوم العولمة، وجعل العالم قرية صغيرة، كما أن وجود الأنترنيت قد ساهم في شيوع المعرفة، والتي أصبحت متاحة للتداول والتبادل، وهكذا أصبح الفرد مساهما في صياغة المعارف، التي لم تبق محتكرة بيد المتخصصين فقط. وقد انعكس ذلك على المجتمعات البشرية برمتها، والتي أصبحت معلقة بسواتر من العوالم الافتراضية، والتي بدورها ساهمت بخلق ميول العزلة بين الناس، وعمقت المزاج الفردي على حساب روح الجماعة. فقد تجتمع العائلة في البيت الواحد أو الغرفة الواحدة، ولكن أفرادها لا يتواصلون فيما بينهم، لأنهم يعيشون في فضاءات مفتوحة ومغلقة في آن واحد، توفرها لهم مواقع التواصل الاجتماعي كالفيس بوك وتويتر وغيرها.

وضمن هذا التصور فقد اعتبرنا بأن الأنباء عن وباء قاتل قد نشأ في مقاطعة يوهان الصينية، هو جزء من هذا العالم الافتراضي المشحون بالحقيقة والخيال، والذي نعيشه يوميا.

ولكن هذا الوباء المُفترض، تحوّل وبسرعة قياسية إلى جائحة تعبر الحدود وتتخطى المحيطات، وتتربص بالسفن والطائرات والقطارات والشاحنات، وأمكنة العبادة ومعاهد العلم، وزوايا المطاعم، وملاعب الأطفال، وأماكن اللهو. والشواطئ والمنتجعات. لقد عصفت بكل شيء وكأنها الطوفان.

لقد كانت صدمة كبيرة تحوّل فيها الإنسان إلى رقم تافه في بورصة الموت، التي تعلن كل يوم أرقام من أصيبوا ومن ماتوا، وعقد مقارنة عن نسب الوفيات. وهكذا يتجرد المرء - فجاة - من قيمته الحقيقية كإنسان، له تاريخه ومجمل معارفه وإنجازاته وحضوره العاطفي، ليتحول إلى رقم مشوّه وتافه، فحظه العاثر قد جعله فائضا عن حاجة المجتمع ، بحيث أنه لا يستحق حتى جهاز الأوكسجين الذي قد يكون فرصته الأخيرة للعودة إلى ذويه ومحبيه.

يموت الإنسان في زمن الكورونا وحيدا ومعزولا عن أقرب ذويه ومحبيه وأصدقائه. يموت دون يد تربّتُ على أوجاعه، أو دمعة تهرق عليه، وليس ثمة من يشيّعه إلى مثواه الأخير.

في كندا، كانت الإجراءات أقل صرامة، فلم يتم إجبار الناس على ملازمة منازلهم، ولم يُفرض منع التجوّل، ولكنك تجد الشوارع شبه خاوية، فقد تصحرت الحياة، وأصبحت بدون روح، فقد أغلقت المدارس ومراكز التسوق والمطاعم والمقاهي والمكتبات والنوادي الرياضية والاجتماعية. لذلك تحولت منازلنا أو شققنا واحة وحيدة نستطيع أن نستظل بها، ونؤكد إنسانيتنا التي تصدعت.

قبل كورونا كانت العلاقات الاجتماعية تتسم بالبرودة، وذلك لاختلاف الثقافات والخلفيات، وانشغال مجمل الناس في العمل المهني والوظيفي، بحيث تصبح العلاقات التي ألفناها في بلدنا الأم ترفا لا لزوم له، ذلك لأن وتيرة الحياة سريعة، ومتطلبات الحياة متزايدة. ومع ذلك فقد أصبح الحجْر معنويا، ويرتبط بأعماق الشعور. فقد تنامى إحساس جديد، لم يكن معروفا من قبل، وهو أن البشر الذي تصادفهم في الشارع يشكلون بالنسبة لك مشروعَ خطر أو موت مُحتمل.

وبذلك فقدنا لذة التواصل، كما فقدنا لذة الشعور بالجمال الإنساني وتذوّقه.

لقد غيرت هذه الجائحة نظرتنا للأشياء، وأصبحنا أكثر زهدا وأقل طموحا وأقل طمعا في المال والرفاه، وذلك لأن الرصيد الحقيقي الذي نصبو إليه، هو السلامة من العدوى، وقدرتنا المناعية على تحمل هجوم الڤايروس.

ومن الطريف أني اشتريتُ بطاقة (اللوتري) أو النصيب قبل الجائحة بأيام، ولكني أهملتها، ومزقت الورقة قبل معرفة النتيجة، وكنت أتساءل بيني وبين نفسي، لو افترضنا بأني ربحتُ مبلغا كبيرا من المال من خلال الفوز بالجائزة، ماذا سأفعل به في ظل هذه الجائحة؟

لقد تحوّل المال إلى عبء تافه. باستثناء تلبية ما هو ضروري.

لقد تكرست لدينا العزلة والوحدانية، وتنامى لدينا شعورٌ بأننا في سجن كبير. ولكي لا نحوّل الحياة إلى قضبان، فعلينا أن نتأقلم ونحارب القضبان الذهنية التي تحاول تكبيلنا، وشلّ مشاعرنا.

إنها فرصة لنا أن نقرأ أكثر ونغرف من مجال المعرفة المتاحة أمامنا، ونحاول البحث عن هوايات نطور أنفسنا. إنها فرصة أن نتحول من متلق سلبي إلى متلق إيجابي، وذلك من خلال الاختيارات التي نجدها في الكتب المسموعة والمقروءة، ومن خلال ما تجود به برامج اليوتيوب المتنوعة، حتى يتسنى لنا أن نتذوق طعم المعرفة الهادفة والملتزمة والجادة، والتي من خلالها نبني شخصيتنا. لنتعلم الخياطة أو الزراعة أو النجارة أو تربية الحيوانات أو أي شيء آخر.

علينا أن نراجع الكثير من قناعاتنا، وأن نتحلى بقدر أوفر من الإحساس بالمسؤولية الأخلاقية تجاه بعضنا بعضاً، وأن نتخلى عن نوازع الشر التي تسمم وجودنا.

إنها فرصة أن ندين التسلح وإهدار الأموال الأسطورية للفتك بالإنسان، وتدمير الأرض من خلال الاستغلال غير العقلاني للبيئة، ومن خلال التلوث والتصنيع.

علينا أن نرفض الإرهاب وأسبابه وندعو إلى السلم بين الأمم والشعوب.

وعلينا أن نتبنى الضغط على المجتمع الدولي، ودعوته إلى إشاعة مفهوم الأمن الصحي العالمي، من خلال خطط للطوارئ الصحية لمكافحة الأمراض والأوبئة في كل أنحاء العالم، وبناء مفهوم المستشفيات العالمية المتنقلة والجاهزة لمواجهة الكوارث والأوبئة.

علينا رأب الصدع في منظمة الصحة العالمية، وخلق منظمة بديلة لا ترتبط بأهواء ومصالح الدول الكبرى، كي تستطيع أن تقوم بواجباتها تجاه البشر جميعاً.

لقد دفعت الشعوب في مختلف دول العالم ثمنا باهظا في صراعها مع الجائحة.

ولكن النصر سيكون حليفا للإنسانية، سيهزم الفايروس بجهود البحوث العلمية، وسينتصر الأمل.

سننزع الكمامة ذات يوم، ونحتضن بعضنا البعض بمحبة.


٠ مشاهدة٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

كي لا ننسى .. احنه مشينا للحرب

بقلم: نزار العوصجي ذات مرة في الثمانينيات جلست وأنا مسافر بالقرب من فتاة تبين أنها من البصرة، وهي طالبة في المرحلة الرابعة بجامعة صلاح...

Comments


bottom of page