بقلم: ابتسام البغدادي
وُلِد ناظم الغزالي1921 في منطقة الحيدرخانة في بغداد يتيمًا لأم ضريرة، واستطاع بصعوبة بالغة استكمال دراسته الابتدائية والمتوسطة، في المدرسة المأمونية. شغف بقراءة كل ما تقع عليه يداه، والاستماع إلى المقام العراقي المعروف بسلمه الموسيقي العربي الأصيل.
ويقال إنه حين تُوفّي كان في مكتبته 20 شريطًا سجل عليها أغنياته كافة وأغنيات المرحومة سليمة مراد. وفي مكتبته أيضًا كرّاس كبير دوّن فيه الأغنيات التي أدتها جميع المطربات العراقيات بين 1910 و1950 وفهرس لأغاني أستاذه محمد القبانجي، وفيه نصوص لأربع وستين أغنية مع ذكر السنة التي سُجلت فيها تلك الأغاني.
وفي دفتر آخر دوَّن عناوين أشهر المخطوطات العربية في علم الموسيقا والغناء تلك الموجودة في محتويات مكتبة المتحف العراقي. وفي صفحة 77 كتب الغزالي الأغنيات التي أدّاها «الجالغي البغدادي» على مدى سبعين عامًا من 1870 ولغاية 1940. وفي سجل كبير آخر نجد الغزالي كتب المقامات العراقية المؤدّاة والطبقة وطريقة الغناء. كما دوَّن كل أغاني سليمة مراد. وهناك صفحات بخط يد الراحل دوّن فيها «تاريخ الديالوج في الغناء العراقي”.
التحق ناظم الغزالي بمعهد الفنون الجميلة لإكمال دراسته، فاحتضنه حقي الشبلي، نجم المسرح وقتها، وضمه إلى فرقة «الزبانية» واشركه في مسرحية «مجنون ليلى» لأمير الشعراء أحمد شوقي في عام 1942، وغنّى فيها أنشودة الحادي (مَن يقود الجِمال في القافلة) من ألحانه، فترجم من خلالها نبوغًا مبكرًا في إدراك معاني الشعر وارتباط الغناء بالمشهد الدرامي، «من مقام الهزام» ويطلق عليه في العراق «مقام الركباني».
حوَّل ناظم إثر هذه الأغنية اتجاهه، تاركًا التمثيل المسرحي ليتفرغ للغناء، وسط دهشة المحيطين به الذين لم يروا ما يبرر هذا القرار، خاصة أن ناظم كان يغني في أدواره المسرحية، إلّا أنَّ وجهة نظره كانت أنَّهُ لكي يثبت وجوده كمطرب فإنَّهُ لا بدَّ أنْ يتفرغ تمامًا للغناء.
في البدايات، قدم أغنية «زهور الضفاف» مقلدًا المطربة المصرية آمال حسين ولحن رياض السنباطي، لكن الغزالي لم يستسلم لعدم النجاح واتجه نحو صقل قدرته الصوتية بغناء المقام وأخذ يستمد منه ما هو مناسب مع صوته، وأخذ يتابع وصلات المولد النبوي الشريف بصوت محمد القبانجي ويوسف عمر، حتى أتقن المقامات الفرعية كالراشدي والحديدي والأورفه. تقدّم إلى اختبار الإذاعة والتليفزيون، وبين عامَي 1947 و1948 انضم إلى فرقة الموشحات التي كان يديرها ويشرف عليها الموسيقار الشيخ علي الدرويش.
أجاد الغزالي الموال باعتراف النقاد وكبار الموسيقيين الذين عاصروه، وما كان يميزه في ذلك معرفته وتعمقه في المقامات العراقية وأصولها إضافة إلى انفتاح حنجرته وصفائها، وكذلك جوابه المتين وقراره الجيد في مختلف ألوان المقامات وأنواعها.
لم يعتمد الغزالي على الشعر المتوارث لأكثر من ألف عام من عمر المقامات العراقية، بل فور ظهوره كان قد حسم أمر تجديد مفاصل المقام وأخذ منه خلاصته. لم يأبه لكل منتقديه المحافظين على شكل المقام التقليدي وعدم المساس به، اختصر كثيرًا في المقام، اختار قصائد عربية جميلة لأهم الشعراء الكبار، فرقة موسيقية جديدة، ملحنين كبارًا، شعراء معاصرين أيضًا لكتابة الأغاني التي تغنى بعد المقام وتسمى (بستة) ولأول مرة أيضًا تصاحب مغني المقام مجموعة كورال وكانت جيدة جدًّا.
استقبل الجمهور أغانيه الأولى بانسجام نفسي تام، وبخاصة أغنية «وين ألقى اللي ضاع مني» وغنى أول أغنية إذاعية جرى فيها التوزيع الهارموني موسيقيًّا هي أغنية «مروا عليّ الحلوين ما ودعوني» لحنها له ناظم نعيم الذي قدم للغزالي أكثر من خمسة عشر لحنًا من أغانيه الشهيرة. ثم تناوب على تقديم الألحان له كبار الموسيقيين في مقدمتهم جميل بشير الأخ الأكبر للموسيقي منير بشير.فيما بعد، اختص الغزالي لنفسه تلحين أغانيه فقدم أغاني ذات حرفة موسيقية جيدة.
لم ينتهِ عام 1948 حتى سافر ناظم للمرة الأولى خارج العراق، وكانت فلسطين هي أولى محطاته؛ إذ ذهب مع الوفد الفني للدعم المعنوي وشحذ همة الجيش العراقي والجيوش العربية الموجودة في فلسطين لمحاربة إسرائيل، والتقى هناك مع عبدالسلام عارف الذي أصبح لاحقًا رئيسًا للجمهورية العراقية بعد انقلاب 1963، حيث تمتنت علاقة الصداقة بينهما بسبب حُبّ عارف لفن الغزالي والمقام العراقي عامة، وأخذا يلتقيان في فترات متباعدة لم تنقطع حتى بعد تولي عارف رئاسة الجمهورية.
فتح ناظم صفحة جديدة في حياته الغنائية فتتلمذ على يد أستاذه محمد القبانجي فيما يخص المقام العراقي وأصول غنائه وتتلمذ على يد الموسيقار روحي الخماش في دراسة العود، وعلى يد جميل سليم دراسة «الصولفيج» وتعلم النوتة الموسيقية وتدوين ما أمكن تدوينه من الأغاني التراثية، التي أصبح فيما بعد حارسها الأمين.
منذ بداية الخمسينيات بدأت أغنيات الغزالي تعبر الحدود، فسافر إلى عدة دول، وأقام عدة حفلات في كثير من الدول العربية، وأصبح سفيرًا للأغنية العراقية. بداية الخمسينيات شهدت تطورًا وانقلابًا ملحوظًا في غالبية مقاييس الغناء في العراق ومواصفاته، وبدأت بوادر الأغنية المتكاملة تظهر مع أغنيات ناظم التي نفاجأ اليوم حين نسمعها بوجود لوازم موسيقية ضمن توزيع موسيقي تتعدد فيه الآلات الغربية والشرقية. ببساطة، قَلَبَ الغزالي غالبية مقاييس الغناء في العراق.
هكذا أخرجَ القصائد من دواوينها وجعلها تجري على لسان أبسط الناس الذين أحبّوا كلماتها، وأحبّوا أكثر الصوت الذي نقلها إلى أذنهم بنبرة الشجن الشائعة في الأصوات العراقية، وإن زاد عليها نبرة أكثر حزنًا بأدائه الدرامي الذي اختلطت فيها الحياة القاسية التي عاشها.
في منتصف الخمسينيات وبعد انتشار الحفلات الغنائية الحية بدأت ظاهرة تسجيل الأغاني على أسطوانات حجرية تنتشر في العراق ومنطقة الخليج العربي والجزيرة العربية، وقامت شركة «جقمقجي» بتسجيل أغانٍ لكبار الفنانين العراقيين وكان على رأسهم ناظم الغزالي. تميزت هذه الفترة باختيارات الغزالي الدقيقة لأغانيه ولأعضاء فرقته الموسيقية وفرقة الكورس منسجمة الأصوات، إلى جانب تعامله مع الملحنين والشعراء في الساحة الفنية العراقية، وظهرت أول مجموعة من هذه الأغاني في أسطوانات، وكانت هذه الأعمال التي قدمها في الحفلات والأمسيات الغنائية مثل «طالعة من بيت أبوها» و«ما أريده الغلوبي»، و«يا أم العيون السود»، وغيرها من الأعمال الرائعة، وكان يشرف على توزيعها الموسيقي جميل بشير.
بهذه الأعمال وغيرها من المقامات العراقية التي اشتهر بها ناظم الغزالي طبقت شهرته الآفاق العربية، وقدمت شهادات بقدرته الغنائية والأدائية من قبل عمالقة الغناء. ولم يتوانَ موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب عن أن يعرب عن رغبته في التلحين لناظم الغزالي. تم الاتفاق على ذلك في صيف 1961 غير أن فرحة ناظم لم تكتمل ووافاه الأجل قبل أن يتم هذا المشروع الكبير.
コメント