top of page
صورة الكاتبThe Ambassador Team

لو أن جدّي تزوّج جدّتي، لكانت سُمعتي جيّدة

بقلم: ريتا فرنسيس - جبور

 

حقّاً كنت أتمنى لو أن جدّي تزوج جدّتي! كانت هذه أمنية طفولتي التي لم تتحَقق.. كان جدّي رجلاً معطاء حنوناً، ذا شخصية جذّابة وصاحب نكتةٍ حاضرة قريبة من فهم ثلاثة حفداء، صبيّان وبنت. كم كنت أتمنى لو أن شقيقتي الصغيرة كانت قد عرفت جدّي كما عرفناه نحن، لكنه استعجل الرحيل قبل أن تبلغ السنة من العمر دون أن ينسى إهداءها أثمن هداياه. أحببت جدّي وطالما أحببت سرده للقصص الطويلة التي أغنت مخيلتي وكانت تستمر ليومين مدّة زيارتنا أو زيارته.

أمّا جدّتي فهي من أجمل نساء الأرض، كانت ابتسامة الترحيب بالضيف تعلو وجهها دوماً. بيتها القروي محطّةً يستريح فيها القاصي والداني حول فنجان قهوة. لديها قدرة خارقة على إعداد موائد الطعام للغريب قبل القريب فتراها تجنّد أهل البيت جميعاً في خدمة الضيف فتعلّم جميع أهل بيتها ثقافة الكرم. كانت جدّتي تصالح المتخاصمين، ليس بالحوار أو الإقناع بل بهزّةٍ من عصاها ونظرة حادة من عينيها فيفهم المتخاصمون بأن الخصام يُغضب “الشيخة”. كانت تعجبني مواقفها وتعجبني أكثر طيبتها الزائدة حين تجمع الأعداء حول مائدة البركة.

رحل جدّي وخسرت برحيله بيتي الثاني. خسرت امتياز الشقاوة ولم أعد أجد من يدافع عني في غيابه... خسرت ذلك الذي كان يسحب المال من جيبه خلسةٍ ويدفعها لثلاثة أطفال ليذهبوا إلى الدّكان ويشتروا ما يحلو لهم دون علم أمي.

رحلت جدّتي وخسرت برحيلها بيتي الثالث. ذلك البراد الكبير لم أعد أجرؤ على فتحه لأخذ “الشي الطيِّب” لأنها غابت وفي غيابها لم يعُد البراد يحوي الأشياء الطيبة!

كم كنت أتمنى لو أن جدّي ذاك كان قد تزوّج من جدّتي تلك، فهو والد والدتي وهي والدة أبي. كلاهما كانا سعيدين كلٌ في محيطه ولكني كطفلة كنت أتمنى لو كانا في بيتٍ واحدٍ لكان هذا البيت كاملاً وبالتالي كان لطفولتي أن تكون كاملة أيضاً. لو كانا معاً لما كانت لي تلك الشقاوة ولما أطلق عليّ كلّ من عرفني لقب “العفريتة”!

كانت زوجة جدّي امرأة رائعة تحبّنا فعلاً أو كرهاً لم أكن لأعرف ولكنني لا أذكر منها ما يسيء إلينا إلّا أنّها كانت تستفزّني دوماً. كانت لديها الكثير من الأحذية النسائية ذوات الأكعاب العالية وكمٌّ كبير من العقود والأساور والخواتم... وكان لي تجاه كل ذلك ضعفات! كنت أغافلها وأدخل غرفتها لأنتعل أجمل أحذيتها وأتمايل بها أمام المرآة. كانت ترصد تحركاتي فتضبطني بالجرم المشهود وتتسبّب لي “بقتلة مرتبة” من أمي التي كانت تصرّ على تهذيبي. كان الأمر يولّد عندي رغبةً أكبر في البحث في خزانة المرأة لألبس أطواقها وأساورها وأن أبحث في أدراج المطبخ عن علبة لبان صفراء وآكل كل ما فيها دفعةً واحدةً.. استفزّني حبّها لأشيائها ودفعني أن أبحث في خزانتها عن ذلك الخاتم الذهبي وأضعه في إصبعي وأمايل يدي أمام المرآة. يومها كنت أسرع من وقع خطواتها ورميت ذلك الخاتم تحت السرير قبل أن تضبطه في إصبعي لتقيم من بعدها حملة تفتيش كبرى جنّدت فيها جدّي وكل الأقارب دون أن تنسى اتّهامي بإضاعته وتشويه سمعتي بين أفراد العائلة. تلك المرأة رغم حبّها لي جعلت مني “عفريتة” صغيرة ذائعة الصّيت لدرجة إني حين كبرت لم يُصدِّق أحد عقلي وظلّوا يشكّون “بآدميّتي” لسنوات طويلة!

لو كان جدّي ذاك تزوّج من جدّتي تلك لكنت خشيت سطوتها وما كنت لأجرؤ على فعل ما كنت أفعله، ما كنت لأبحث في أغراضها خوفاً من عصاها وما كنت لألبس أحذيتها لأنها كانت كلّها مسطّحة لا تغريني. لو كان جدّي ذاك تزوّج من جدّتي تلك لكنت وشقيقاي جلسنا على كراسي الشرف, على موائد جدّتي وليس في المطبخ، كان جدّي ليطلق نكاته ويُضحك جميع من هم على تلك الموائد المتجهّمة. لو أنهما زوجان لكان سمح لنا أن نتسلّق أشجار الزيتون يوم القطاف عوض التقاط الحبات عن الأرض. كان ليسمح لي بأخذ قطعة عجين في يوم الخبز، للعب بها رغم اعتراضات جدّتي أو على الأقل لكان أتاني بحفنة طحين لأشكل العجينة من مياه “البركة” بنفسي.

كانت سمعتي لا غبار عليها في قريتنا ليس لأني لم أمارس الشقاوة بل لأني كنت أفعل ما أفعله في الخفاء لأن جدّي لم يكن هناك ليدافع عني. كنت أمارس هوايتي في إزعاج الآخرين في قريتنا لكن الأمر كان يتطلّب حنكة أكبر لكيلا يُكشف أمري. مثلاً كانت تلك الفتاة التي تصغرني بسنوات تلبس فستاناً وتحمل حقيبة يد, كانت تبدو لي كنسخة مصغّرة عن والدتها. لا تلعب معنا كيلا يتّسخ فستانها أما عن حقيبتها فلم تكن لترينا ما في داخلها الأمر الذي كان يسلب عقلي ويصيبني بجنون أخذ الحقيبة عنوة وتعليقها على غصن شجرة الكرز في البستان. لم أكن لأفصح عن مكان الحقيبة رغم دموع الفتاة وعندما كانت تُقام حملات تفتيش عن الحقيبة كنت أتبرّع بالمساعدة وبالفعل كنت أسيّر الفتاة باتّجاه ضالّتها ومن ثم أشهد بأني رأيتها تعلّقها هناك وأسخر منها لدرجة أنها كانت تصدقني وتكذّب نفسها. الأمر كان يختلف في بيت جدّي هناك كانت لي مساحة أكبر من الحريّة كنت ألعب “على المكشوف” وعلى العلن لأن محاميّ موجود إلى جانبي لا يتوانى في الدفاع عني مهما كان جرمي كبيراً.

لو أن جدّي ذاك تزوّج من جدّتي تلك لكانت سمعتي “كالمسك” في كلتا القريتين!

رحل جدّي ورحلت جدّتي قبل أن يتسنّى لي أن أخبرهما كم أحببتهما. استعجلا الرحيل قبل أن أفيهما حقّهما، رحلا قبل أن أتمكن من إحضار فنجان قهوة واحد لجدّتي، رحل جدّي قبل أن أصرف ليرة لبنانية واحدة في سبيل إسعاده... لم يكلفني حتى ثمن لفافة تبغٍ واحدة. رحلا قبل أن يتسنى لي أن آخذهما في نزهة في السيارة.. رحلا وكانت الحياة تليق بهما. رحلا وبعد انقضاء كل تلك السنين ما زلت أذكرهما مع ابتسامة كبيرة لذكراهما العطرة.

٣ مشاهدات٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

كي لا ننسى .. احنه مشينا للحرب

بقلم: نزار العوصجي ذات مرة في الثمانينيات جلست وأنا مسافر بالقرب من فتاة تبين أنها من البصرة، وهي طالبة في المرحلة الرابعة بجامعة صلاح...

Comments


bottom of page