بقلم: رحاب سعدة
هل أنت محصلة خبراتك وذاكرتك؟ أم أنت من تختار ما تحتفظ به وما تسقطه من ذاكرتك؟
هذا التساؤل وكثير من الأسئلة المتعلقة بالهوية شغل العديد من الفلاسفة على مر العصور، ثم التقط منهم الخيط الأطباء والعلماء والباحثون في علوم المخ والأعصاب ووظائف أجزاء الدماغ ووصلاته العصبية.
ما الذاكرة؟ وكيف تعمل؟ وأين يتم تخزينها؟ وكيف يتم استدعاؤها؟ وماذا يحدث لها مع كثرة الاستدعاء وإعادة التخزين؟ هل تتحور؟ هل تضعف مع الوقت؟ هل تختفي؟ هل تحوي هويتنا أو يمكن نسخها؟
أسئلة كثيرة مثيرة للخيال العلمي، لأن ما نعرفه حتى الآن لا يزال في المراحل الأولى من فك طلاسم المخ، نبدأ بالتفرقة بين نوعين من الذاكرة:
الذاكرة قصيرة المدى -وهي تتعامل مع تفاصيل الحياة اليومية وتتيح لنا متابعة حوار أو فيلم سنيمائي أو رواية في تتابع أحداثها، فنفهم المضمون ونعيه، وهي ذاكرة قصيرة تذهب سريعاً الى سلة المهملات في حالة انقضاء الحدث، أو يتم فلترتها من التفاصيل الصغيرة وإرسال مضمونها الى محطة التخزين طويل المدى في حالة وجود مثيرات عاطفية أو فكرية نود الاحتفاظ بها في ذلك الحدث.
الذاكرة طويلة المدى -هي ما تم تجميعه من خبرات ومهارات تم اكتسابها، مثل تعلم ركوب الدراجة أو قيادة السيارة، ومعها ايضا الأحداث التي أثرت بعمق على عاطفتنا وكونت ردود أفعالنا الانفعالية، وتتم هذه العملية أثناء النوم، حيث يقوم المخ بمسح الذكريات اليومية غير ذات المعنى ويرسل الاحداث الكبيرة الهامة للذاكرة طويلة المدى، ويخلي الذاكرة القصيرة لإعادة التسجيل عليها في اليوم التالي.
ثم تأتي بعدها مرحلة التخزين، وهي أكثر تعقيداً، فقد كان يُنظر للذاكرة قبلاً على أنها مخزن أرشيفي هائل للمواقف التي نمر بها، يتم فرزها وتصنيفها في المخ وحفظها في ملفات ثم وضعها في أدراج معنونة لحين الحاجة اليها، فيتم استدعاؤها واستخدامها ثم إعادتها لنفس الدرج.
لكن العلم الحديث لم يثبت هذه الصورة تماما، فبرغم صحة فرضية الفرز والتحليل والعنونة للمواقف إلا أن التخزين يتم بطريقة مجزأة في عدة أماكن في المخ، فمثلا استقبال المثير الواحد يتم تحليله في المخ الى عناصر استقباله الحسية حسب الحواس الخمس للإنسان، هناك ذكرى للرائحة ترتبط بالموقف، وذكرى للضوء والصورة، وذكرى للملمس وأخرى للمعنى الذي كونه المثير داخل نفوسنا، وبالتالي فكل عنصر من هذه العناصر المنفصلة يمكن أن يحدث له استثارة فيستدعي معه بقية عناصر الخبرة السابقة من أماكن حفظها، لتتكون امامنا ذكرى كاملة الملامح من لون وطعم ورائحة وعاطفة مرتبطة بها.
الذاكرة إذن هي حزمة من الإشارات العصبية متبادلة بين أجزاء المخ، يتم فيها تبادل الأكواد الخاصة بكل حدث ثم دمجها معا في صورة واحدة مرة أخرى.
المثير للدهشة، أنه حين استدعاء الذكرى فإنها تختلط بالحاضر والواقع وتأثيراته الانفعالية الجديدة وحين يتم إرجاعها للتخزين لا تكون نسخة مطابقة لما كانت عليه، بل تلتصق بها تفاصيل جديدة تندمج معها وتغير فيها قليلا.
ولاختبار فرضية ديناميكية عمل الذاكرة قد تم إجراء بحث نفسي على بعض من عاصروا حادثة انهيار برجي مركز التجارة العالمي، فتم تسجيل شهادتهم عن الحادثة وقت وقوعها، ثم تم استجوابهم مرة أخرى بعد مرور خمس سنوات على الحادثة، وسؤالهم نفس الأسئلة السابقة، فلاحظ العلماء تغيراً في التفاصيل المروية عن المرة الأولى، وظهور تفاصيل وأحداث قد أضافها المخ من الصور واللقطات والحكايات الأخرى التي تم ترويجها في الإعلام، فلم تعد نفس الذكرى على شاكلتها الأولى تماما، فهي بذلك تتحور وتتغير بكثرة استدعائها.
ثم أثار مرض الزهايمر لكبار السن، والذي يبدو من مضاعفاته فقد القدرة على استدعاء خبرات المهارات والتعلم، وخلل في الذاكرة قصيرة المدى فلا تعود تخلق رابطا بين تفاصيل الأحداث، أثار هذا المرض تساؤلا عن “فقد الذاكرة” ومعناه العلمي، هل تختفي الذكريات من ملفات المخ؟
الحقيقة أن الذكريات لا تختفي، وتظل قابعة في المخ، لكن الوصلات العصبية بالمخ هي ما يصيبها العطب وتفقد التواصل بين بعضها البعض، وبالتالي تعجز عن تشفير الاحداث تمهيدا لتخزينها وتعجز عن فك شيفرات أوامر الاستدعاء من ناحية اخري، هو حال أشبه بمكتبة مليئة بالكتب موصدة الأبواب ولا يعمل بها أي موظف، فتكون كالصندوق الأسود لا يدري أحد ما به.
هل معنى ذلك أنه لو تمكنّا من نقل هذه الذكريات والخبرات إلى مخ يعمل بكفاءة عالية يمكن استرجاع تلك الذاكرة واستخدامها؟ نظريا قد يبدو هذا طرحا معقولاً، لكن عدم توافر إمكانية نقل الذاكرة لدماغ جديدة يجعلها نظرية في طور التشكل والاحتمال، إلا انه لدينا تجارب علمية في مراحل أسهل وأقرب للتجريب يتم فيها برمجة أجهزة تعمل بالذكاء الاصطناعي بكل المعلومات والأحداث المعروفة أو الذكريات التي شاركها شخص بنفسه على مواقع التواصل الاجتماعي، وجعل الجهاز يعالج هذه المعلومات المخزنة وإعطاء إجابات وردود أفعال تشابه -وقد تطابق -ردود الشخص الأصلي. لكننا هنا نصنع محاكاة للشخص أكثر منه نقل للذاكرة.
إلا أن هذه الافتراضية تعود بنا مجدداً إلى سؤال الهوية، وهل نحن محصل ذاكرتنا فقط؟ أم أن الأمر أكثر تعقيداً؟ أيا كان ما يحمله لنا المستقبل، فالماضي السعيد لنا ليس بالضرورة بالسعادة التي تصورها لنا ذاكرتنا، وقد يكون أيضا ليس بالسوء الذي تخيله لنا الذكرى المستدعاة....
فعش لحظتك واصنع ذكريات جديدة، لديك الكثير من المساحة التي يمكنك استغلالها.
Kommentare