top of page
صورة الكاتبThe Ambassador Team

كاظم جواد شحيل ... وداعاً

بقلم رحمن خضير عباس


لم يتحمل جسدك النحيل جرعة العلاج الكيمياوي، فاستسلمت للموت الذي تغلغل ببطء بين حجابك الحاجز وبين الحنجرة. ذاب صوتك بين تيارات الوجع التي لم يستشعرها في تلك اللحظة سواك.

اتصل بي الصديقان كريم شعلان ومعتز رشدي، قالا بنبرة حزينة: لم يبق لصاحبنا سوى سويعات قليلة في هذه الحياة.

حينما اتصلت بك يوم الأحد تلفونيا، أحسستُ بأن كلماتك تخرج مذعورة ومتلعثمة من خلال صوتك المبحوح، ولكنك طمنتني بصوت يحاول أن يتسلق وجع اللحظة، وقلت لي متفائلا وواثقا:

(ستنتهي فحوصاتي اليوم وسأخرج من المستشفى قريبا، إنها وعكة بسيطة، سأتصل بك غدا الاثنين لأشرح لك كل شيء).

ولكنك لم تتصل أبدا، فقد ذوى صوتك واختفى، لقد أجهز عليك الداء الذي لم تقو على مصارعته.

لقد رحلت مجبرا، دون أن نتمكن من تخفيف بعض آلامك، أو نعوض عنك غربتك، أو نشيّعك إلى مثواك الأخير.

قبل خمسين عاما التقيتك يا صاحبي في جامعة بغداد، كلانا يبحث عما يقلل من حجم ارتباكه، فقد جئنا من مدن تقع على حافة النسيان إلى بغداد الجميلة، فانبهرنا بحُسن المدينة، نغازل لياليها على شواطئ أبي نواس، ونتحسس دفقها في حارات باب المعظم وساحة الميدان. كنّا نلازم بعضنا في أقسام الدرس الجامعي وفي نادي الكلية وفي المكتبة والقسم الداخلي، وفي المظاهرات والاحتفالات، وفي شارع الرشيد وفي شارع النهر، كنا نحلم بوطن يحتضن أحلامنا الصغيرة.

فوجدنا أنفسنا في معترك هائل من الشعارات والتحزب وتشظي الأفكار.

كانت الكلية عشنا الكبير والجميل والدافئ، ذلك العش الذي انتهكته طيور الوقواق.

عُيّنتُ في أقصى الجنوب وفي مدينة الفاو تحديدا، أما أنت فقد تمّ تعيينك في أقصى الشمال وفي مدينة السليمانية.

جمعنا الواجب العسكري من جديد، تلك العسكرية التي أصبحت تعصف بنا، وتجتث جذوة الحياة من روحنا، فكتبت لك بأني سأهاجر إلى أي بلدٍ أجد فيه إنسانيتي. وانقطعت أخبارنا.

بعد أربع سنوات حينما كنتُ في مدينة وجدة المغربية. وجدت ورقة محشورة في باب شقتي.

“أنا صديقك كاظم ، جئتك هاربا من العراق، انتظرك في أول مقهى”

ونحن نتعانق، رددتُ عليه أغنية يوسف عمر

“شردت منّه يخلگ الله ، وتاني. لگيتة بحضرموت يخم عليّ”

فرددتَ ضاحكا “ما تخلص مني، وين ماتروح سوف ألقاك”

قضينا فترة في شقتي بوجدة، ثم تم تعينك كمدرس في مدينة سطات.

كنا نلتقي في العطل المدرسية، نتسكع في شوارع الرباط، أو على شواطئ الجديدة، أو نلتقي في مكناس.

بعد عدة سنوات ألغي عقد عملك في المغرب، فاستطعت أن تهاجر إلى كندا. وبقيت تكتب لي الرسائل الكثيرة والتي تشرح لي محاسن كندا، وتستحثني للمجيء هنا قبل فوات الأوان.

عشتَ في تورونتو، وكنتَ تمارس الأعمال المرهقة، والتي تركت فيك رد فعل جعلتك تنكفئ على نفسك. حاولتُ أن أتفاهم معك على أن تتصالح مع الذات، ولكنك كان شرسا ضد ذاتك التي تشظت من عوامل الغربة.

تركتك لخياراتك، وكانت الحياة قاسية لا تحتمل الكثير من الأخطاء والتعثرات. ولكنك بقيت تطارد أحلامك التي لم تتحقق.

السنوات كالأمواج التي تجرفنا وتضعنا في زوايا ضيقة.

كنت يا أبا ناظم – هكذا يحلو لك أن نسميك-تعشق الحياة، وتعبّ منها.

ولكنك متّ اليوم غارقا في عتمة الموت والألم، بعيدا عن أهلك ووطنك.

هؤلاء الأهل الذين أحبوك بعمق وتفانوا من أجلك.

لقد آلمني موتك يا صديقي حقا. ولكنّها الحياة، تعطينا الكثير، وتشحّ علينا بالكثير أيضا.

إنه المصير الذي لا بد منه.

لروحك السكينة والسلام

ولذويك الصبر والسلوان.


مشاهدتان (٢)٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

Comentarios


bottom of page