بقلم: رحمن خضير عباس
حينما تحاول مشاهدة فيلم من بطولة عادل أمام، يتبادر إلى ذهنك مباشرة الجانب الكوميدي فقط وذلك لقدرة هذا الفنان على تجسيد
المواقف المختلفة، وترطيبها بالجانب الفكاهي الجميل.لقابليته الفنية على التعبيرات الضاحكة المُوحية، بوساطة قسمات وجهه، وقدرته على خلق الطرائف الفكاهية، حتى إنه يخرج عن النصّ المكتوب في كثير من مسرحياته وأفلامه.
ولكنّ فيلم (النوم في العسل) الذي أخرجه الفنان شريف عرفة في عام ١٩٩٦، يختلف في فحواه عمّا ألفناه في أسلوب عادل إمام، فلم يكن كوميديا ، كما لا يمكن اعتباره فيلما جادا أيضا.
فالفيلم يتحدث عن ظاهرة افتراضية،تنشأ فجأة بدون سبب أو مقدمات، ولكنها سرعان ما تنتشر بين أحياء القاهرة والمدن المحيطة بها. وهي عجزٌ جنسي يُصيب الرجال، ويجعلهم غير قادرين على أداء وظائفهم البيولوجية.
يبدأ الفيلم بمشهد لزفاف تقليدي، العريس يتأبط ذراع عروسته، وهو يمشي بين المحتفلين من الأقارب والأصدقاء، ويبدو عليهما نشوة الفرحة، وكانت الكاميرا تتجول في أبعاد المشهد وسط موسيقا الأفراح المألوفة. ولكن ثمة توتر غير مرئي يتأرجح بين ملامح الوجوه، وقد أظهره المخرج ومن خلال زوايا متعددة للتصوير، وكأنه يوحي بأنّ ثمة أمرا جللا سيعكر أجواء الفرح. وحينما يصلان إلى عش الزوجية حيث بداية لحظة العسل، نرى الزوج وقد اعتراه ذهول غريب، وفجأة يخرج من الغرفة يائسا، ويقود سيارته قرب السكك الحديدية، ويتربص بقطار قادم في السكة الطويلة، ويجابهه بتصميم، ونراه وقد عصف به القطار المُسرع ليحوله إلى مجموعة أشلاء.
ويصل الخبر إلى قسم الشرطة، فترسل مدير مباحثها العقيد مجدي (عادل إمام) والذي يذهب إلى مكان الحادث، وبعد التعرف على جثة الشاب، يستجوب زوجته، ولكن العروس لم تشرح الأمر باللفظة المباشرة، ويفهم منها بأنه لم يستطع أن يمارس دوره، لذلك شعر الزوج بالخجل من نفسه، وانتحر لكي يمحو عاره، ولكنّ المفاجأة التي واجهت جهاز المباحث، أن قضية العجز الجنسي قد انتشرت في أمكنة مختلفة،وبين ناس كثيرين. ولكن الضحايا لا يعترفون بذلك، ولا يبوحون لأحد، ولذلك يجتاحهم الغضب ويقومون بردود فعل عنيفة. شرائح كبيرة من المجتمع يصيبهم هذا الداء وينعكس الغضب على النساء أيضا، وذلك لأنهن يشعرن بأنّ مسألة جوهرية من حياتهن قد تلاشت.
ويبد أن هذا الوباء قد منح فرصة لرجال الدين أن يفسروا هذا العجز بقلة إيمان البشر، فنُزعت عنهم هذه النعمة، كما ازدهر سوق الشعوذة التي أصبحت قوية، لأنها استغلت الجهل الذي جعل الناس يلوذون بالسحر والشعوذة والخرافات، وكذلك انطبق الأمر على أسواق الفاسدين من الأطباء، أو عطّاري الأعشاب.
ولكنّ العجز الجنسي قد وصل مداه إلى جهاز الشرطة ،ممثلا بالعقيد مجدي الذي لم يستطع أن يمارس الحب مع زوجته، والتي تلعب هذا الدور الفنانة دلال عبد العزيز.
الفيلم لا يعطي تفسيرا لهذه الظاهرة، ولكنه يريد تشفير العجز الجنسي، على أنه يمثل حالة كبت عامة، شاعت في البلد وعصفت بكل حريةٍ للتعبير. ويصل الكبتُ إلى مداه حتى إن الناس غير قادرة على الاعتراف بالخلل مع معرفتها به. فالعريس الذي انتحر كان قويا في تدمير ذاته ،ويبدو وكأنه يهاجم قوة القطار الرهيبة، ولكنه لم يستطع أن يصمد ويحارب من أجل استعادة حريته/ عجزه.
ولقد فضح الفيلم حالة النفاق مع الذات التي تمارسها أدوات السلطة (مثل المدير العام) الذي أكد على فحولة كاذبة، وهذا يعني من زاوية أخرى إن أدوات السلطة عاجزة عن امتلاك حرية اتخاذ القرار، وتبقى قوية من حيث المظهر بينما تعيش حالة من الهشاشة.
استطاع الفنان عادل إمام أن يمنح الفيلم بعض الدعابات المرحة، من خلال التلاعب بالألفاظ التي تتكئ على الكناية التي تعني من حيث المصطلح: لفظٌ أريد به غير معناه. وتطفح لهجاتنا المحلية بالكثير من الاستعارات والكنايات عن موضوع الجنس، لأنه يعتبر أحد المحرمات، لذلك نلجأ إلى التعبير عنه بعبارات أخرى، وهذا ما فعله عادل إمام.
لقد تخلص العقيد مجدي من عقدة العجز، حينما ذهب مع زوجته في الصحراء، واستطاع أن يتغلب على هذه العقدة ، حينما قال ضاحكا:
“ الهواء الطلق جاب نتيجة”
ولعل الفيلم يدعو إلى التحرر من عبودية الكبت، التي ستجعل المجتمع مشلولا ومرتبكا.
قبل عام تقريبا من هذا الفيلم ،أي في عام ١٩٩٥ عالج الروائي البرتغالي ساراماغو، مسألة العمى الذهني وتفشيه في المجتمعات، وقد اختار الكاتب البرتغالي إحدى الأوبئة الافتراضية التي تفتك بالمجتمع، وربما كان كاتب قصة ( النوم في العسل) الأديب الراحل وحيد حامد قد تأثر بها، أبني زعمي وافتراضي هذا، من خلال صدور الرواية وشهرتها قبل عام من صدور الفيلم ،وتناولها موضوعا افتراضيا غير مطروق.
Comments